رأي
نحن الذين بقينا… بقلم: الدكتور/ خالد بن عبد الرحيم الزدجالي

نحن الذين بقينا…
بقلم: الدكتور/ خالد بن عبد الرحيم الزدجالي
نحن الذين لم نغادر على متن طائرات الفرص، ولم نبحث عن أوطان بديلة بقينا هنا، نحمل في صدورنا حبًا لا يُساوَم عليه لهذا الوطن لكننا، إلى جانب هذا الحب، نحمل أسئلة ثقيلة لا تجد من يصغي. كنا نفتخر بمؤسساتنا الوطنية، نراها رموزًا للنهضة والاستقرار.
واليوم نراها تتساقط واحدة تلو الأخرى:
الطيران العُماني يرزح تحت خسائر بمليارات الريالات، شركة الأسمنت العُماني أوقفت إنتاجها، الأسماك العُمانية لم تصمد، شركة الشرقية لتحلية المياه أُعلن تصفيتها مشاريع شبابية واعدة، كمنصة ماركتي وغيرها، اختفت دون دعم أو احتواء. بل وحتى شركات النفط، التي كنا نراها آخر الحصون، بدأت بتسريح العُمانيين، وكأن أبناء هذا الوطن هم دائمًا الحلقة الأضعف. المشكلة لا تكمن فقط في الأرقام ، بل في تكرار الوجوه، والخيارات، والسياسات ذاتها.
الإدارات تُسلَّم إما لأطراف وافدة لا تعرف طبيعة المجتمع، أو لأبناء نفوذ لم يمروا بتجربة ميدانية حقيقية والنتيجة: انهيارات متتالية، وفشل بلا مراجعة، ولا اعتراف بالخلل. أما إعلامنا، فلا يزال يعيش في فقاعة التمجيد والتطمين.
يمجّد كل شيء، ويتجاهل كل ما يؤلم الناس. يمنح المبدعين مساحات ضئيلة، ويبقي صوت المواطن خارج الصورة.
لا قناة تعبّر عن هموم الناس، ولا نافذة تُطلّ على قضاياهم.
الثقافة مُهملة، والفنون تُترك لاجتهادات فردية، والرياضة بلا بنية حقيقية. حتى تاريخنا العظيم، الذي يمكن أن يكون ركيزة لهويتنا الوطنية، يُختزل في عبارات مكررة عن ملوك البحار و فتح إفريقيا لا توثيق سينمائي حقيقي، لا استثمار إعلامي مؤثر، ولا مشروع يقدّمه بعمق إلى الأجيال أو إلى العالم. وإن وُجدت مبادرة جيّدة،استُدعي لها الوافد ، وتُرك ابن الوطن الخبير ينتظر حتى يندثر أو يرحل بصمته وفوق كل ذلك، يُفاجأ المبدع العُماني بأن خريطة الوطن أصبحت فسيفساء مغلقة مبدع من مسقط لا يستطيع أن يبادر بعطائه في ظفار، ولا صاحب مشروع من نزوى يجد فرصة في صحار المحافظات أصبحت وكأنها تُدار بعُرف أهلها أولى بها وتوزيع الكعكة صار مشروطًا بالشراكة والنفوذ. لا يكفي أن تكون عُمانيًا، بل يجب أن تبحث عن شريك عُماني في كل ولاية لتبدأ وكأننا نعود بصيغة مستحدثة من نظام الكفيل، حيث المواطن يحتاج إلى كفيل من أبناء المنطقة، في بلد يقوم على قوة القانون ووحدة الأرض، لكنه يُفتّت في الممارسة اليومية بجشع المصالح وفي مشهدٍ موازٍ، يُهمل المتقاعدون الذين أفنوا أعمارهم في بناء الدولة وتعليم الأجيال وخدمة المؤسسات تُختزل حياتهم بعد العطاء في ظل الأرصفة، في المقاهي ومجالس العزاء،
وكأنهم تقاعدوا من الكرامة، لا من الوظيفة. ولأن الداخل صار مرهقًا، ولأن الصدق في الحديث عنه صار تهمة، توقّف المواطن عن نقد ما يراه أمامه، وبدأ يُفرّغ وعيه في نقد الخارج.
يتحدث بلا خوف عن خيانات الأنظمة العربية، وغطرسة أمريكا، ونفاق الغرب، ويتفنن في تحليل الحروب والمؤامرات.
لكن حين يتكلم – للحظة عن وجعه هنا، عن خيبته في مسؤول، أو عن فسادٍ رآه بعينه، يتحوّل فجأة إلى المُتهم يُطالب بالاعتذار يُتهم بقلة الفهم أو قلة الولاء يُجبر أن يكتب منشورًا مرتبكًا يقول فيه لم أقصد الإساءة كنت في لحظة انفعال… كلامي أُسيء فهمه أنا أعتذر عن تفاهتي وسوء تعبيراتي، وكأن عليه أن يُكذّب إحساسه، ويخجل من ألمه، أن يمسح حقيقته كي لا يُمسح من الوجود!
هكذا أصبحنا أكثر شجاعة في جلد الآخرين، وأكثر جُبنًا في قول الحقيقة لأنفسنا. فإلى متى نظل نحن الذين بقينا – نحمل الأمل وحدنا، بينما تُدار البلاد بلغة التجاهل؟