رأي
بروفيسور إبراهيم محمد آدم يكتب أدركوا الزراعة قبل حدوث المجاعة
بروفيسور إبراهيم محمد آدم يكتب
أدركوا الزراعة قبل حدوث المجاعة
في صبيحة يوم الجمعة الثلاثين من يونيو عام 1989 صحونا على أصوات مارشات عسكرية عبر أثير الإذاعة، وصوت مذيع يطل بين كل وصلة موسيقية وأخرى ليقول سيذيع عليكم سعادة العميد عمر حسن أحمد البشير بياناً هاماً فترقبوه، كان البيان هاماً فعلا وفي اللغة مهم يختلف تماماً عن هام، كان ذلك قبل أن تذاع نشرة أخبار السادسة والنصف صباحاً والتي أضحى الجميع يبدؤون بها يومهم، كنت حينها في المرحلة الثانوية ومن المولعين بالأخبار والقضايا السياسية فاحتضنت الراديو لحين إذاعة البيان.
أدرك الكبار أن ذلك يعنى انقلاباً، لم يستغربوه طبعاً فقد كانت الحكومة تتشكل ائتلافية ثم ما تلبث أن تتحول إلى اختلافية، وأخرى تشكل وتوصم بأنها حكومة الوحدة وهي إلى الشقاق أقرب، والأحزاب وقتها كانت كما وصفها شاعرنا الكبير الراحل محمد سعيد العباسي ذلك الوصف الذي قاله قبل سبعين عاماً في قصيدة يوم التعليم وقد انطبق عليها حينها ولا يزال صالحاً اليوم، فهو يقول في بعض أبيات القصيدة تلك (ولو درى القوم بالسودان أين هم من الشعوب قضوا حزناً وإشفاقا، جهل وفقر وأحزاب تعيث به هدت قوى الصبر إرعاداً وإبراقاً)، كان الهتاف الأشهر حينها (العذاب ولا الأحزاب).
كانت الأغلبية الصامتة في الولايات لا شأن لها كما اليوم بالجدل المترف الدائر بين نخب الخرطوم، ولا مظاهرات واعتصامات عوامها، لذلك لم يستغرب أهل حلتنا الإنقلاب ولكنهم استنكروا توقيته ( بالله ده وكت إنقلاب)، ذلك الزمن غير المناسب هو شهر يونيو والذي نبدأ فيه التحضير للزراعة المطرية بتوفير الجازولين عبر اتحاد المزاراعين، وذلك الانقلاب يعني تلقائياً تعطل أعمال الحكومة التي تنسق مع تلك الاتحادات في هاتيك المهام.
واليوم ما أشبه الليلة بالبارحة فقد بدأ الموسم الزراعي المطري في ولايات القضارف وسنار والنيلين الأزرق والأبيض وكردفان ودار فور ولا يوجد أدنى ذكر لأي لجنة أو جهة تتابع ذلك الموضوع فبعد سقوط الإنقاذ ورغم التغيير كانت الاستعدادات أفضل تتابعها لجنة برئاسة اللواء مهندس مستشار حينها إبراهيم جابر إبراهيم، وقد تولت تلك اللجنة أعمال الزراعة من التأسيس إلى الحصاد.
واليوم يدخل المزارعون الموسم وقد بلغ سعر برميل الجازولين مائتان وثلاثون الف جنيهاً و الجازولين هو عماد العمليات الزراعية لذلك تشهد الزراعة عزوفاً منقطع النظير، ففي العام الماضي كان إيجار الجدعة وهي تساوي خمسة أفدنة مبلغ أربعين الف جنيهاً واليوم فإنها في أبو عريف بمحلية الدالي والمزموم مثلاً لم تتجاوز الخمسة وعشرون جنيهاً وفي القضارف أعلن الوالي عند إجتماعه باللجنة المفوضة من قبل المزارعين قبيل عطلة العيد ضعف انسياب الجازولين وتوقف عمليات التمويل الزراعي وأمن على ضرورة التحرك العاجل للخرطوم لمقابلة رئيس مجلس السيادة لبحث كيفية نقل الجازولين والتقاوى والآليات إلى مناطق الإنتاج .
لذلك فيما أرى أن الأمر المهم والعاجل هو تشكيل لجنة على مستوىً عالٍ ممن تبقى من أعضاء مجلس السيادة أو الجزء المتبقي من أعضاء حكومة ما بعد اتفاقية سلام جوبا لتحاول إنقاذ هذا الموسم الزراعي، بعد فشل موسم الزراعة المروية وكانت أسعار القمح قد جعلت المزارعين ينعون اليوم الذي عرفوا فيه الزراعة، وفيما عدا ذلك فإن مجاعة ماحقة سوف تفتك بالبلاد وحينها لن تجد تلك الأحزاب المواطن الذي تتصارع على حكمه.
إن تلك الظروف تأتي وقد أثرت على العالم كله تداعيات حرب روسيا و أوكرانيا التي سوف تتضح نتائجها بنهاية العام عندما ينفذ مخزون القمح الحالي وتتعذر زراعة الموسم الشتوي القادم في أوكرانيا . وفي أحدث تقرير صادر عن الأمم المتحدة فإن نحو 360 مليون شخصاً في إفريقيا يعانون من انعدام الأمن الغذائي مما يعني أن ربع سكان القارة ليس لديه ما يكفي من الطعام ويعود ذلك بحسب التقرير إلى النزاعات والظواهر المناخية وأفاد ذلك التقرير أن منطقة الساحل الأفريقي تتعرض لأسوأ موجه جفاف منذ أكثر من عقد، مما دفع بأكثر من 10 ملايين شخص إلى المعاناة من سوء التغذية بالإضافة إلى نحو عشرة ملايين شخصاً في السودان وسبعة ملايين شخصاً في جنوب السودان يعانون من انعدام الأمن الغذائي وهناك 69 دولة في العالم تعاني من مشكلات اقتصادية منها 25 في أفريقيا و25 في آسيا و19 في أمريكا اللاتينية ومن أمثلة تلك الدول مصر وتونس والسودان ولبنان وقد ارتفعت أسعار الغذاء في العالم إحدى عشرة مرة وبحسب البنك الدولي فإن اثني عشر بلداً في العالم سيكون غير قادر على تسديد ديونه.