رأي
فضيلي جماع يكتب : من يخبر هواة السياسة في بلادنا أن شارعنا بقيادة لجان المقاومة وشباب الثورة أدرك هذا المعني
Fidaili jamma
هذا ليس برجل أبيض .. إنه الرفيق جو سلوفو !
قرأت قبل أسبوعين تعليقاً قصيراً شد انتياهي. كتب التعليق (الخبر) بأحد مواقع التواصل الإبن الأديب صلاح الأمين. كان خبراً عن كتاب يحوي السيرة الذاتية للمناضل الجنوب – أفريقي الأبيض جو سلوفو. تمعنت في صورة الكتاب وإسم مؤلفته – جيليان سلوفو، إبنة المناضل الكبير. إثنان من أصدقاء التواصل السايبري واصلا منذ أمدٍ طويل نشرهما كتابات قيمة عن إنسان إفريقيا وعن نضالات شعوبها: الأخت الدكتورة فاطمة الشيخ حسن، والإبن الدكتور صلاح الأمين . فما وجدت مادة لأحد هذين إلا وكانت هموم وثقافة أفريقيا مادة كتابته. أقول هذا لأنه يوافق مزاجاً عاماً وسعياً حثيثاً لاتساع دائرة الوعي في مجتمعنا الذي ظلت أجيال جديدة وبعض مثقفيه تتداعى لتأكيد موقع إنسان السودان الطبيعي وهويته في قلب قارة المستقبل أفريقيا – بدلاً عن التيه ومركب النقص في معرفة اتجاه بوصلة بلد بأكمله فيما يتعلق بالهوية ومعرفة الكينونة الثقافية.
قلت بأنّ صورة كتاب جيليان سلوفو عن أبيها المناضل الكبير شدت انتباهي. وفي نهار اليوم التالي اقتنيت الكتاب من موقع أمازون الشهير ، ليكون في حوزتي في أقل من 24 ساعة. أوقفت كل نشاط لي يتعلق بالقراءة والكتابة وأنشطة أخرى. إنّ التاريخ الحي لثورة جنوب أفريقيا وقصص رموزها الذين كتبوا أروع فصل في قيادة نضالات الشعوب في عصرنا تبقى دفتراً هاماً نفتحه كلما أشكلت علينا دروب النضال الصعبة.
إسم الكتاب ((Every Secret Thing – وقد تكون ترجمته غير الحرفية (كل الأشياء السرية). وجيليان هي البنت الوسطى لثلاث بنات لجو سلوفو وزوجته المناضلة “رث فيرست”. جيليان روائية ، لكنها في هذا الكتاب اختارت أن تغوص في سيرة شخصين عرفتهما منذ طفولتها حتى غادرا الحياة، هما: أبوها جو سلوفو وأمها رث فيرست. ومن خلال الكتابة عن الإثنين يقف القارئ منبهراً أمام الثورة كفعل إنساني حقيقي يلغي حواجز العنصر واللون والمعتقد.. لتبقى إنسانية الإنسان هي المعنى الأسمى الذي ينبغي أن يحدد كيفية أن نتشارك بلداً ، نموت ونحيا من أجله في عصر الأمم والشعوب. لذا ظلت الجنوب- أفريقية البيضاء “رث فيرست” – زوجة جو سلوفو – أنموذجاً يحتذى للشباب الثائر في جنوب أفريقيا – سود وغيرهم – وفي موزمبيق وزامبيا والبلدان المجاورة لجنوب أفريقيا وهي تنتقل من سجن إلى منفى في دول الجوار. فلم يكن من خيار لحكومة التفرقة العنصرية (ابارتايد) غير أن تنهي حياتها في المنفى بانفجار طرد ملغوم.
ولا تقل سيرة المناضل الأبيض جو سلوفو إبهاراً عن سيرة زوجته رث فيرست. بل تضعك جليان في أدق تفاصيل الصبي اليهودي اليتيم الذي وصل مع أبيه لجنوب أفريقيا مع عدد من المهاجرين اليهود، قادمين إليها من ليتوانيا بالباخرة في بداية ثلاثينات القرن الماضي. هذا الصبي يحب وطنه الجديد – جنوب أفريقيا ، ويعطيه كل عمره. ليس غريباً إذن أن يصل جو سلوفو – اليهودي ، الشيوعي عبر نضاله ضمن منظمة المؤتمر الوطني الأفريقي ((ANC ، بعد أن دخل مانديلا السجن – أن يصل سلوفو إلى أعلى رتبة في الجناح العسكري للثورة المعروف برمح الأمة (امخونتو وي كيزوي) وأن يقوده في الداخل والخارج ، حتى سقوط أبارتايد بخروج مانديلا ورفاقه من السجن وانتصار ثورة شعوب جنوب أفريقيا.
أعحبني في كتاب جيليان سلوفو عن أسرتها أن السيرة نأت عن الشخصي وركزت على سيرة شعب من خلال تفاصيل كبيرة وصغيرة في النضال اليومي لشعب جنوب أفريقيا. كتبت عن الصعود والهبوط والضعف والقوة في سيرة والديها. سيرة للإنسان عندما يناضل من أجل وطن حر ، يتساوى فيه الجميع..فتتأرجح حياته بين الصعود والهبوط. بين الأمل واليأس وبين التردد والمغامرة بالنفس من أجل ذاك الهدف السامي .
سالت دمعتي حين انحنى مانديلا ماسحاً بكفه على جبهة جو سلوفو – وقد فارق الحياة، وهو يناديه بصوت حزين: (وداعاً جو). وحق لمانديلا أن يحزن لرجل أبيض قاد جيش رمح الأمة متنقلاً من المنافي ومغامراً بحياته أكثر من مرة ، متسللاً مع مقاتلين شباب للقيام بعمليات عسكرية في عمق البلاد. وليدفن وسط حشود تاريخية في مقبرة بسويتو – احد أشهر الأحياء الشعبية التاريخية في جوهانسبيرح.
ذاك هو الرجل الذي لمحه شاب مناضل أسود، وهو يسير بجسمه الفارع جنباً إلى جنب مع مانديلا ووالتر سيسولو وويني مانديلا وآخرين من رموز المؤتمر الوطني الأفريقي في تظاهرة حاشدة في حي سويتو الشعبي بعد خروج مانديلا ورفاقه من السجن – حيث تساءل الشاب الأسود مستغرباً: من هذا الرجل الأبيض الذي يسير جنباً إلى جنب مع نيلسون مانديلا؟ أجابه أحدهم بصوت عال: هذا ليس برجل أبيض.. هذا هو الرفيق جو سلوفو !!
هل رأيتم كيف تلغي الثورات الكبرى اللون والعرق والجهة؟ من يخبر هواة السياسة في بلادنا أن شارعنا بقيادة لجان المقاومة وشباب الثورة أدرك هذا المعنى منذ انفجار الثورة الكبير في 19 ديسمبر 2018 ، بينما رهط من “زعيط ومعيط” ما زالوا ينتظرون الإجابة على السؤال :أيهما هو الأصل: البيضة أم الدجاجة؟
يحزنني حد البؤس ما أنت فيه يا وطني!
فضيلي جمّاع – لندن
في 17 – 11- 2022