رأي

جمال الدين الدين محمد صالح يكتب: قراءة في تاريخ المستقبل

جمال الدين الدين محمد صالح يكتب:
قراءة في تاريخ المستقبل

(…. وهكذا كنا دائماََ نسعي لافساد الأخلاق وهدم القيم، نزرع الفتن والشُرور ونبحث عن سُبُل الخلاف وزعزعة الثقة في النفوس . ذلك لأننا كنا نخشي نهضة ذلك البلد _السودان _ ذو التاريخ العريق. كنا نُصاب بالرُعب حينما نعلم أنه منبع البشرية واصل الحضارة الإنسانية. ففي تلك الأرض وُجد ادم، وفيها نشأ موسي. كان ذلك التاريخ يؤذينا ويبعث فينا الكراهية وشهية التخريب. كم سعينا لتشويه تلك الصورة وتمنينا لو نستطيع محوها من التاريخ. كنا نرتعد خوفاً حينما يذكر بعانخي وتهراقا وبادي أبو شلوخ، ونتمذق غيظاََ علي ذلك الدٌعي المهدي، ومثله علي دينار وتيراب، وفي الشرق المهووس دقنة، وفي الشمال الخائن نمر، وفي الجنوب المتمرد عجبنا. ولن ننسي دُنقس وجماع والماظ وزُمرته
أولئك الاوباش الذين ذلذلوا اركلن دولتنا. كانت سيرهم تؤذينا فكُنا نتواصي علي هدم ذلك البلد،، فنجتهد في اشعال الحرائق. فهذه هي رسالتنا) تلك كانت مقتطفات من كتاب(كيف تعاون الانس والجان علي تخريب السودان تاليف إبليس، نشر وتوزيع دار السواهي والدواهي. وقد صدر الكتاب بمناسبة الذكري الثانية لتاسيس دولة الابالسة في السودان.
يواصل إبليس سرد ذكرياته عن السودان في ذلك الكتاب، فقال:( كان السودان نموذج حي للعنة الموارد والقيادات. لقد كان بلداََ مُذهلاََ . حتي كنا نسميه نحن الابالسة
” المنجم ” لتعدد ثرواته وموارده. كان غنباََ وبِكراََ في كل شيء.. كان بكراََ في موارده وسلوك شعبه. إنها بكارة سلوكية تقوم علي العفوية والبراءة التي تصل حد السذاجة. فكلمة اْطراء بسيطة في حقهم تمكنك من السيطرة عليهم. ونشر وشاية مغرضة كفيلة باشعال الفتنة بينهم. فما أسهل غٍواية البُسطاء، وخلق الفتن بين البُرءا. ترافقت لعنة الموارد مع لعنة القيادات. فكانت لعنة علي شعبها. كانوا يتنافسون علي تمزيق مجتمعهم، وتدمير وطنهم. لقد فعلوا في وطنهم مالم نفعله نحن الابالسة فيهم. كان الشعب في ذلك البلد الغني يعيش حياة “الجمع” و”الالتقاط ” التي عاشها الإنسان البدايء في العصور الاولي من التارخ.
لقد كان السودان ” جنة “، تسكنها أمة بٍكر، تولتهم شياطين الإنس.
كان إبليس وهو يطالع مع الابالسة الشباب فُصول الكتاب، مُمسكاََ لُفافة من ورق بيُسراه. بدا إبليس مهتماََ جداً بتلك اللُفافة. فتارةََ يخفيها في معطفه، وتارةََ يتابطها، وتارةََ يطويها في يده. أثار ذلك المشهد حفيظة أحد الابالسة، فسأله قائلاً : ماتلك بشمالك يا كبير الابالسة؟. عندها قفز إبليس من مقعده كمن صُفٍع علي قفاه، مُمسكاََ اللُفافة بكلتا يديه، ضاماََ إياها علي صدره، وهو يتمتم بكلمات أشبه بالتعاويز. فسأله جليس آخر: ماذا دهاك ياكبير الابالسة؟ . عاود إبليس الجلوس مردداََ: لاشيء لاشئ
ثم قال: أما هذه اللُفافة فهي قائمة ” الممسوخين”.
فسأله آخر: ومن هم أولئك الممسوخين؟.
قال إبليس: إنهم إنس خدموا دولة الابالسة كما نريد. وأحياناً بأكثر مما نريد. إنهم إنس يفعلون فعال الجن لأنهم يجمعون ما بين صفات الإنس والجن. إنهم مخلوقات علي هيئة الإنس ولكنهم يزاحمون الابالسة في “الابلسة” وسلوك الجن. ثم أردف قائلا: يقول عنهم الإنس انهم أناس قد تلبسهم “الجن” فقادهم إلي فعل ما يفعلون. ولكن كيف بكون ذلك؟ فنحن الجن الذي يتلبس الإنس ولم نامرهم بفعل ذلك!.! . إننا لم نامرهم بقتل المرضي وحرق المستشفيات وتخريب ديارهم. فهذه كلها هي افعالنا نحن الابالسة، ولكنهم قد سبقونا إلي فعلها راغبين!! . إنهم يكرهون بعضهم أكثر مما يكرهوننا، وبسعون للفساد في الأرض أكثر مما نسعي. انظروا إلي افعالهم:
إنهم “ابالسة” أكثر من”إبليس
قال إبليس ذلك بنبرة عصبية بائنة، وهي من المرات القلائل التي يُري فيها إبليس علي حالِِ من التوتر الشديد. وكان إبليس حينما قفز سقطت وُريقة كانت داخل الُلفافة لم ينتبه إليها. فسأله أحد الجلساء: وماذا عن تلك الوُريقة الصغيرة _مشيراََ إليها؟. التفت إبليس إلي حيث أشار المتحدث، فخرٌ عليها منحنياََ، ملتقطاََ إياها بكلتا يديه. نظر فيها طويلاً ثم قال ” هذه الوُريقة الصغيرة في حجمها، الكبيرة في محتواها، هي قائمة بالاعمال الكبيره التي انجذها الممسوخين. وأخذ إبليس يستعرض محتويات القائمة، فقال: هذا مبني الإذاعة، ذلك الصوت والمستودع الذي يخلد إرث الأمة والامجاد التي سطرها الاسلاف. لقد تجرؤوا علي حرقها!!. صمت إبليس ثم قال: وهذا هو المطار البوابة التي يطل منها السودان علي العالم. لقد قاموا كذلك بتخريبه!!. أما حرق اليرموك وجياد ومحطات توليد الكهرباء وتدمير المصفي فهذه حالة جنونية استوقفتنا طويلاً!! . أما حرق الوثائق والمتاحف والمكتبات فهو طمس للامة واغراقها في البحر. هذه الأعمال الكبيرة التي نعجز عنها نحن الابالسة ونتردد في الأقدام عليها استوجبت علينا تخليدهم في ذلك المتحف الذي سوف ترونه بعد قليل. صمت الجميع. أما إبليس فقد بدا شارد الذهن، رامباََ ببصره نحو الأفق البعيد كمن يبحث عن مفقودِِ له ضاع في الفضاء.. كسراََ لحاجز الصمت، سأل أحد الابالسة قائلا : فما تفسيرك لهذا السلوك يا كبير الابالسة؟، هزٌ إبليس رأسه ثلاثاً ثم قال: تفسيري لهذا السلوك الغشيم هو أنه أحد “كرامات” دولة الابالسة. فقد جاء في’سِفر ” الاجداد أن قيام دولة الابالسة سوف يرافقها العديد من “الكرامات”، وهذه احدي تلك الكرامات وهي” تسخير ” بعض بني الإنس لخدمة دولة الابالسة.
، في الفصل الثاني من الكتاب كان إبليس يشرح
لجُلسائه كيف تمذقت دولة السودان. مُسهباََ في الحديث عن نلك الصراعات والحروب العبثية، فقال: كان السودان دولة واحدة ولكنها لم تكن موحدة. لقد كانت الشروخ التي تقسم تلك الدولة أكثر من أن تحصي. كان قادتهم لايجتمعون علي رأي، ولا يتفقون علي موقف. لذلك كنا لا نجد صعوبة في التفريق وخلق الفتن بينهم، فهم في الأصل متفرقون ومتناحرون. وذلك ما مكننا من القضاء علي تلك الدولة وتقسيمها الي عدة دويلات متناحرة.
وضع إبليس الكتاب جانباً، وفض خريطة كانت هي احدي ملاحق الكتاب، باسطاََ إياها وسط الابالسة، وقال: هذه خريطة دولة الابالسة. ترون في غرب الدولة هذه المساحة الحمراء الواسعة الشبيهة بالدم المسفوح، وهي بالفعل بِركة دم بسبب الصراعات التي تدور فيها. هذه الدويلة هي ( إتحاد دارفور الكونفدرالي). وهي دويلة تتكون من عدة ولايات شبه مستقلة. وهي مرشحة لمزيد من الانقسامات الداخلية بسبب تركيبتها العرقية المتباينة. إلي الحنوب الشرقي منها ترون هذه البُقعة السوداء الصغيرة. إنها دولة ( النوبة الديمقراطية). هذه الدويلة الظلامية هي نموذج للدولة الفاشلة. فهي تتخبط في ظلمات الجهل والفقر والبؤس وتفصل بينها والعالم المتحضر عصور زمانية طويلة. لذلك ترونها سوداء في الخريطة. أما بقية الساحل الحدوديّ الجنوبي فقد توسعت فيه جارتها الجنوبية وأصبح جزءاً من اراضيها. هناك بعض الالسن علي الحدود الغربية تقطنها بعض الاقليات المضطهدة، اختارت تلك الاقليلت بتشجيع منا الانضمام طوعاََ إلي الجارة الغربية الملاصقة. في شمال الخريطة ترون هذه “البؤرة” الصفراء الشاحبة. إنها جمهورية ( دار جعل العربية). هذه الدويلة المنتفخه بالكبرياء الزائف، هي نموذج آخر للدولة ” البالونية” سريعة الانفجار. أما بقية الشريط الحدودي الشمالي فقد توسعت فيه الجارة الشمالية انفاذاََ لاطماع قديمة كانت تراودها. في جنوب النهر، وكما ترون في الخريطة، قامت دويلة أخري هي ( مملكة الفونج الزنجية)
وقد ضمت إليها القبائل التي تقطن اعالي النهر حتي الحدود الجنوبية لدولة السودان. ذلك ما جري ناحية الغرب والجنوب والشمال من السودان. أما ناحية الشرق، في تلك الأراضي الممتدة من النهر غرباََ حتي البحر شرقاََ، تلك الأراضي التي اغناها الله وافقرهاالإنسان حيثالسهول
المنبسطة، والسلاسل الجبلية الممتدة، الغنية بكل شيء. كانت تلك السهول يقطنها بعض الإنس. ولكنها الآن شبه خالية، إلا من بعض بني الإنس الهائمون هنا وهناك، وبعض المراكز الحضرية الشبيهة بمعسكرات اللاجئين. وذلك بسبب قساوة الحياة وظلم الإنسان لأخيه الإنسان. تلك السهول الممتدة، الخالية من الانس تمثل كل مستقبل دولة الابالسة.
أما في وسط السودان، فقامت دولة المركز (السودان الجديد) . ان فكرة (دولة المركز) هي فكرة “ابلبسية” من حيث محتواها. ولكنها ليست من بنات أفكارنا نحن الابالسة. إنها في الاساس فكرة “انسية” تقوم علي عقيدة “التثليث” المستلهمة من ذلك المثلث الشهير. وهذه واحدة من المرات الكثيرة التي نهتدي فيها نحن الابالسة بافكار الإنس. فقمنا بتطويرها ونوسيع المثلث ليشمل أجزاء واسعة من الأراضي المتاخمة للمركز ناحية الغرب والجنوب والشمال. نلك الأراضي الواعدة ذات الثروات الضخمة وقليلة النزاعات، فتكونت منها دولة( السودان الجديد) . ان المشترك الوحيد بين تلك الدويلات هو حالة الهُزال والطيش والتناحر التي ابقينا عليها لضمان عدم تجدد اشواق الوحدة بين تلك الدويلات. هكذا تشكلت دولة الابالسة._قال ابليس _ ثم طوي الخريطة واعادها حيث كانت.
أبدي الابالسة الشياب الرغبة في التعرف علي أهم معالم عاصمة دولة (السودان الجديد)، وعما إذا كانت هناك أي دلالات لتلك المعالم. استحسن ابليس تلك الرغبة وعرض عليهم اصطحابهم في جولة ميدانية للتعرف علي أهم معالم العاصمة.
اٖمتطي إبليس ومرافقيه ظهر( ساهوج)_ وهو حصان إبليس _ ملوحا بِيُسراه، فإذا هم في أقل من لمح البصر عند مُلتقي النيلين في ساحة( الأحرار). اوضج إبليس لمرافقيه أن تلك الساحة_ساحة الأحرار _التي كانت تسمي سابقاً ساحة (ابريل) هي أحد أهم معالم العاصمة. ويؤمها (الأحرار) من كل انحاء المدينة فيسهرون ويتسامرون حتي الساعات الأولي من الفجر _ يعني إبليس ب( الأحرار) نساء شبه عاريات وشباب من الجنسين بصعب التمييز بينهم. بينما كان إبليس يسير متوسطااََ مرافقيه عبر ساحة الأحرار، شارحاََ لهم مرافق الساحة، والاحرار يموجون في منتهي الحرية، وقف أمام أحد المباني وقال: انظروا إلي هذه البناية البيضاء الواسعة، إنها مبني ( غردون للرقص)_ G. M. H_ وكانت تسمي مبني الصداقة (يقصد إبليس قاعة الصداقة)، واردف قائلا: ان لهذا المبني دلالات تاريخية عميقة ذات صلة بدولة الابالسة. قُبالة هذا المبني ناحية الشمال، كما نرون، يقع شارع ( السودان الجديد)، وهو شارع النهر سابقاً ( يقصد ابليس شارع النيل). وهو اميز شوارع المدينة، ويحلو لاباءكم الابالسة أن يطلقوا عليه (الشارع الذي لا ينام). فهو كما ترون شديد الاكتظاظ ببني الإنس، خاصة الأحرار منهم. حيث تكثر فيه الكازينوهات والمرافص والاندية الليلية. ثم التفت ناحية الجنوب وقال: إلي الجنوب من هذا المبني _مبني غردون_ يقع شارع (محمد عمر)، وهو أحد اهم شوارع المدينة (يقصد إبليس شارع الجمهوىية). قاطع أحد المرافقين إبليس قائلا: ومن هو (محمد عمر) يا كبير الابالسة؟، فسكت إبليس ولم يجيب. مرٌ الابالسة اثناء سيرهم شرقاََ عبر شارع (محمد عمر) بمبني ذو طابع اثري. أشار إبليس نحوه وقال: هذه البناية الاثرية هي ( متحف السودان الجديد). وهي في الأصل بناية دينية كانت تسمي (فاروخ)( يقصد إبليس مسجد فاروق). وقد تم اعادة تاهيلها بادخال بعض “الاصلاحات” عليها واتخاذها متحفاََ للسودان الجديد. قال ابليس: يضم المتحف بداخله صوراََ تذكارية لاهم وكلاءنا من بني الإنس الذين قامت علي اكتافهم دولة الابالسة. يشمل ذلك النياشين والرتب العسكرية التي نالوها، وسيرهم الذاتية، وبعض مقتنياتهم الخاصة. كما يضم المتحف الدرجات العلمية والشهادات التقديرية والالغاب التي منحناها لهم. كذلك يضم المتحف مكتبة صوتية تحتوي علي اهم خُطبهم وتصريحاتهم. كما يوجد جناح للوثائق السرية ومحاضر الاجتماعات التي عقدوها. إلا أن هذآ الجناح خاص فقط بالباحثين والمنغبين في “الأسرار”. ثم دعاهم إبليس لرؤية المتحف من الداخل، فنفذ بهم عبر شقوق صغيرة أعلي السقف لا تُري إلا بصعوبة. أخذ الابالسة يتجولون بحرية داخل المتحف، يقلبون القطع الاثرية، ويتاملون في الصور، وبضطلعون علي اسماء الشخصيات وبعض التسجيلات الصوتية. وبينما كان الابالسة منهمكون في التعرف علي محتويات المتحف، لفت إبليس انتباههم قائلا: لعلكم لاحظتم هذه النقوش علي الجُدران، إنها في الاصل مقاطع دينية (يقصد ابليس آيات) تم محوها والابقاء علي بعض الكلمات منها لتنبيه الزائر إلي اصل البناية، والتذكير بحجم العمل الكبير الذي قام به اباؤكم الابالسة بتحويلها من بناية دينية (مسجد) إلي متحف اثري _ همهم الابالسة تعبيراََ عن الثناء والتقدير _ إلا أن ما اثار دهشتهم أن تلك الصور والوجوه التي رؤوها، والاسماء التي قرؤوها لم تكن غريبة عليهم. فقال احدهم: كم قرات في الوسائط والصحف السيارة لبني الإنس عن هذا الإنسيّ _وأشار إلي احدي الصور _ عن فضاءله وحبه واخلاصه لوطنه!!. وقال آخر كم رأيت هذا الإنسيّ _واشار إلي صورة أخري _ وهو يقسم أنه سيموت فداءََ للوطن!!. وقال آخر كم استمعت الي هذا الإنسيّ وهو يعظ موصياََ بالصدق والإخلاص والاحسان.!. وهكذا أخذ الكل يحكي ملاحظاته وبعبر عن دهشته. هم إبليس بالمداخلة لتطييب الخواطر. إلا أن ما لفت انتباهه ابليسي صغير يقف خلف الابالسة. كان ذلك الابليسي الصغير شارد الذهن ، تبدو عليه سيما الحيرة والذهول. دنا ابليس منه، واضعاََ يَسراه علي رأسه قائلا: ماذا بك يابُني؟!، قال الابليسي الصغير لقد قرانا في تاريخ ذلك البلد_السودان _أنه كان ضحية التآمر الخارجي، وإن تكالب الأعداء عليه كان وراء حالة التمذق التي حلت به. بينما تقول الوثائق هنا أن ما فعله ابناء ذلك البلد يفوق التصور. وان تلك الحروب العبثية التي مذقت السودان كانت حروباََ داخاية بالكُلية، وإن غرفة عمليات تلك الحروب كانت تديرها رُموز وطنية، وهي التي كانت تحدد بداياتها ومساراتها ونهاياتها. بل هي التي كانت تضع قواعد الاشتباك لاطرافها. وإن تلك الأطراف المتصارعة كانت تاتمر بامرها!!!. وإن التمزيق والهدم والتدمير كانت اهدافها الكُلية!!!!. فال الابليسي الصغير ذلك ثم سكت والوجوم بهيمن علي وجهه. امسك إبليس بيده وقاده نحو غرفة ملحفة بالمتحف هي جناح الوثائق السرية، كُتب عليها (سلة الغسيل). ثم عادا مسرعين وابليس يربت علي كتفه. صمت الابليسي الضغير بُرهة ثم قال: أذاك هو سليل “الاشراف”؟! ، وذاك هو” شيخ ” العرب؟!، وأولئك هم الذين كانوا يزعمون أنهم يتوضؤون للسياسة كما يتوضؤون للصلاة؟!. ساد الصمت ارجاء المتحف والكُل يتطلع ببصره ناحية المتحدث. والاستياء والوجوم علي وجهه. تقدم إبليس خطوات إلي الامام، ثم قال بلهجة العارف الحكيم: يا ابنايء لقد سبق أن قلت لكم أن من بين هؤلاء الإنس من هم” ابالسة ” أكثر من ” إبليس “، ولم يذيد علي ذلك ملوحاََ بيُسراه أن هيا بنا. فتسرب الابالسة خارج المتحف عبر ذات الشقوق يتبعهم ابليس.
واصل الابالسة سيرهم شرقاََ عبر شارع (محمد عمر) حتي بلغوا داراً فسيحة تطل علي ذات الشارع من ناحبته الجنوبية. يحيط بتلك الدار سور زجاجي شفاف يمكن المارة بالخارج من رؤية” الانشطة ” الشبابية بداخله. وقف إبليس بمحازاة البوابة بلافتتها الكبيرة المضيئة قائلا: هذا هو نادي (الاحرار). اللافت للانتباه هو العناية الفائقة التي اختير بها موقع ذلك النادي. فهو في الأصل كان مقهي يجتمع فيه العمال المهرة، كان يعرف بقهوة العمال. إلي نلك القهوة كان العمال الفنيين يفدون من كل انحاء العاصمة. ففيهم الجاء من ” الجريف” وفيهم الجاء من ” الجبل”، لا هم قُراب ولا هم أهل، بس قربهم العمل وطلب الرزق الحلال. تلك القهوة كانت ذات طابع ونكهة سودانية خالصة. فقد قامت عفوياََ دون تخطيط من الحكومة، والتعامل فيها عفوياََ. لقد ذهبت تلك القهوة كما ذهبت قبلها العديد من القهاوي الشعبية العريقة. وتحولت من ساحة للرزق الحلال، إلي وكر من اوكار الحرام (نادي الأحرار).
واصل الابالسة سيرهم شرقاََ. بعدها انحرف إبليس ومرافقيه ناحية اليسار ليتجه صوب الشمال. وعند أول تقاطع وجد الابالسة انفسهم أمام نصب تذكاري ضخم. ما أن رأي إبليس ذلك النصب إلا وهرول في سيره دون شعور، وأشار إلي مرافقيه أن تحلقوا حول النصب. اغمض إبليس عينيه وكفيه ورفع إلي الاعلي ساعديه، واخذ يضرب صدره بقبضتي كفيه.بعنف الواحدة تلو الاخري. وشرع في اداء بعض الحركات كمن أصيب بالهستريا. تلك كانت عادة الابالسة في تحية النصب. ثم أفاق إبليس فقال لمرافقيه: هذا نصب البطل ( غردون)، الذي مهد الطريق لدولة الابالسة لولا أن قتله أولئك الاوباش. وهذه جامعة (غردون ) مشيراََ بيُسراه ناحية الشرق. وهذا الشارع الذي تقفون عليه المنحدر ناحية الغرب هو شارع غردون ثم اغمض إبليس عينيه ويُسراه مرة اخري، رافعاََ اياها إلي أعلي ، مُيمماََ وجهه ناحية السماء، مردداََ بعض الترانيم يتابعه فيها بقية الابالسة. وهي عادة الابالسة في أداء قسم الولاء. علماً بان ذلك النصب الضخم كان قد اقيم في موقع كان بقام فيه نصب تذكاري صغير تهدمت بعض جوانبه، كُتب عليه بخط غير مقرؤ نصب الشهيد ( عبد الفضيل الماظ)
قبل الانصراف أهدي إبليس نسخة الكتاب الذي كان بيده
كتاب ( كبف تعانون الانس والجان علي تخريب السودان
إلي ذلك الابليسي الصغير رابتاََ علي كتفه. بعدها التفت إبليس ناحية مرافقيه، مبتسماً إبتسامة صفراء، معتذراََ لهم عن تلك الجولة المرهقة. وقد دعاهم الي للاستراحة وتناول كوب من النبيذ في شارع (السودان الجديد) . عندها لوٌح إبليس بيُسراه إلي ( ساهوج) أن هيا بنا. فإذا هم جلوس داخل مبني في شارع (السودان الجديد) . قال ابليس لجلساءه: هذا هو (سموم )، وهو نادي كبار الابالسة.
يحكي الرُواة أن إبليس ومرافقيه بينما هم جلوس يحتسون النبيذ ويتبادلون “النخب” في بهجة وسرور، يتداولون حول مستقبل دولة الابالسة والمشروعات الطموحة التي أشار إليها ابليس في ذلك الخلاء الممتد ما بين النهر غرباََ حتي البحر شرقاََ، دخل عليهم شيخُُ وقور شدبد بياض الثياب، لاتبدو عليه سيما التدين المصنوع. ضرب الباب بعصاه بعنف ثلاثاََ، ثم اقتحم عليهم المجلس قائلا ( بسم الله). فخرٌ السقف علي رؤوسهم هدٌا، و فرٌا إبليس ومن معه صعقا، فانهارت دولة الابالسة ليعود بعدها السودان كما كان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق