رأي

جمال الدين محمد صالح يكتب : مشاهد من زمن النكد

جمال الدين محمد صالح يكتب :
مشاهد من زمن النكد
زمن النكد هو زمن إستثنائى . إنه زمن تبُاع فيه الأوطان كما تبُاع ” الخُردة ” بأبخث الأثمان ، وتُبتذل فيه الوطنية حتى تصبح سوقاً للتكسب واالإرتزاق ، وملهاة في يد الصغار والكبار . فى ذلك الزمن تقل ” النباهة ” ويتوارى عن المشهد ” النُبهاء ” ، وتكثر” البلاهة” ويعلو صوت ” البُلهاء” ، فتتحول الحياة إلى مسرح عرائس ، حيث يسود ” البهلوانيون ” و” المهرجون” ، و” والمشعوذون ” ، وتارة إلى مسرح سيرك ، تلك الممارسة التى إنتقلت إلينا من الفن الرومانى القديم ، حيث كان يتم إعداد حلقات المصارعة حتى الموت بين الحيوانات المفترسة و” العبيد ” . فى ذلك المسرح يتم ترويض عقول المشاهدين فتنصرف عن رؤية بشاعة المشهد إلى خفة الحركة وبراعة الأداء بين وحوش مفترسة وعبيد بؤساء ، فتتحول المأساة إلى ساحة للمتعة والنزهه والكسب الرخيص !! . هكذا هو حالنا اليوم ، إذا نصارع أقدارنا المفروضة علينا بلاحول منا ولاقوة ، وبلا جريمة إرتكبناها كعبيد بُؤساء !.
وأخيراً فى زمن النكد : تتحول العمالة ضد الوطن إلى بطولة ، والإرتزاق على حساب الوطن إلى مهنة ، أما الوطن فقتيل ليس عليه بواكيا.
ما أكثر الشواهد ، وما أبشع المشاهد ، وما أنكى الجروح فى زمن النكد . وحينما نتأمل فى فواجع وطننا المنكوب ، تتدافع المشاهد بالخاطر حتى أحتار فى أيهما أدع ، وأيهما أختار. ولكن دعونا نتأمل فى بعض تلك المشاهد.

مشهد أول :
مأساة مشروع برنامج الإطار المتكامل المعزز EIF :
دون الدخول فى تفاصيل التعريف بهذا المشروع لأن المقال لا يسع ، فأقول إجمالاً أن هذا المشروع هو مشروع تبنته منظمة التجارة العالمية لمكافحة الفقر والجوع ، وتسريع خطى التنمية فى الدول الأقل نمواً ( LDCs) .
بدأت علاقة السودان بالمشروع بسلسلة من التعثرات منذ العام 2006م . لذلك لم يرى المشروع النور خلال مدة تجاوزت العشرة اعوام . إلا أن أهم ما أُنجز فى تلك الفترة هو إعداد أحد أهم الوثائق الأساسية للمشروع . بينما خطت الدول” المحترمة ” خطوات بعيدة فى ظل المشروع . فمنها ما تخرج من قائمة الدول الأقل نمواً أو كاد . فى العام 2017 دعت إدارة البرنامج فى جنيف السيد/ وزير التجارة لتفعيل علاقة السودان بالبرنامج لفوائدة العظيمة . وقد جاءت تلك الدعوة إشفاقاً على السودان من ضياع فرص ثمينة يمكن أن يستفيد منها فى تصحيح أوضاعة الإقتصادية المتردية ، وهو يعد نفسه للإنضمام إلى منظمة التجارة العالمية . بناء على ذلك تم إختيارى نقطة إرتكاز للبرنامج ( Focal point) . عندها عكفنا مع نخبة من الخبراء من داخل وخارج السودان نتفحص ” الداء ” ونقلب مواطن ” الألم ” ، شحذاً للأذهان ، وبحثاً عن دواء ناجع يمكن أن يسهم إيجاباً فى علاج بعض علل إقتصادنا العليل ، حتى خرجنا برؤية كانت هى مقترح المشروع (project proposal) ، نحسبها كانت كفيله أن تحدث نقلة إبجابية فى إقتصادنا . وقد تم قبول مقترح المشروع من سكرتارية البرنامج . كما تم التصديق بالمبلغ المعتمد له والبالغ 900 الف دولار لتمويل انشطة المشروع . وقد إستصدرتُ موافقة مؤكدة من إدارة البرنامج لإعتماد مبلغ 300 الف دولار كدعم إضافى عند بدء المشروع ، وذلك عند لقائى بهم فى كمبالا . فى تلك الفترة تم إعداد كل وثائق المشروع . وبينما نحن نتأهب لتوقيع مذكرة التفاهم لإ علان إنطلاقة المشروع ، صدر قرار من أحد القياديين الذين مروا على الوزارة بإبعادى من المشروع . هنا فأنا لا استنكر ذلك الإبعاد، فالتغيير هو سنة الحياة متى ما كان إلى الافضل ، وتوفرت فيه حسن النية وسلامة المقصد . إلا أن من المفارقات العجيبة والتى لا يمكن حدوثها إلا فى زمن النكد ، هى أننى لم أُخطر رسمياً بذلك القرار الذى مضى عليه أكثر من ثلاثة أعوام حتى كتابة هذه السطور !!. وحينما علمت من” قرائن الأحوال ” ، بأمر إبعادى من المشروع وإستبدالى بآخرين ، سارعت على الفور بإعداد مذكرة تسليم وتسلم ، ورتبتُ كل وثائق المشروع إنتظاراً للتسليم . وقد أخطرتُ سكرتير مشروع السودان فى جنيف بذلك الإجراء ، وهم على ذلك من الشاهدين . إلا أن من المؤسف لم يطلب أحد منى تسليم وثائق المشروع ، أو أى مستند متعلق به حتى هذه اللحظه !!. وهكذا إنطلقت إدارة المشروع تتخبط فى” الظلام ” دون هُدى أو دليل ، ف “جنحت” عن المسار بسبب ” التخطى ” ! و” القيادة بإهمال ” ! ، مسببةً “الأذى الجسيم ” فى حق الوطن . وهكذا جاء ميلاد المشروع ” مسخاً ” ” مشوهاً” ك” البغل ” ، فلا هو “حمار ” فإستحمرناه، ولا هو”حصان ” فإستحسناه !!. إلا أن البغل مخلوق خلقه رب العالمين لحمكة يعلمها هو وهو الحكيم الخبير. .فما هى الحكمة من” بغلنا ” ؟! أفيدونا يا أرباب البغل يرحمكم الله .
وحتى لا نرمى الكلام على عواهنه ، أو نأخذ الناس بالظنون ، سأورد لكم فيما يلى مقتطفات من أنشطة المشروع المجاز والتى كنا نخطط لإنفاذها :
1- بناء قاعة تدريب VIP لتوفير الصرف البذخى على تأجير قاعات التدريب والورش بفنادق خمسه نجوم ، وتوفير تلك المبالغ لصالح المشروع ، ولتكون تلك القاعة مكسباً للوزارة بعد إنتهاء المشروع . وقد رصدنا لتلك القاعة مبلغ 18,700 دولار تم تخصيصها ضمن ميزانية المشروع . تأتى أهمية هذا المنشط حينما نضع فى الإعتبار أن وزارة التجارة تكاد تكون هى الوزارة الوحيدة من بين مؤسسات الدولة ا لتى ليست بها قاعة تدريب أو إجتماعات تليق بها . وقد كان من المقرر أن تكون فاتحة البداية للمشروع بناء تلك القاعة لإستضافة أنشطة المشروع .
2- إعداد دراسة وعمل مقترح لإنشاء مركز السودان للتجارة الدولية ليكون منصة السودان للتجارة الخارجية ، ومركزاً لجمع المعلومات وإحصاءات التجارة الخارجية ، وتحليل السياسات الإقتصادية ، ومؤسسة لتنمية الصادرات . وقد رصدنا لهذا المنشط مبلغ 15 الف دولار .
3- إعداد دراسة وعمل مقترح لإنشاء حاضنة أو مركز لرعاية منتجى المحصولات البستانية ،وتدريبهم على أفضل الطرق لزراعة وحصاد وتعبأة وتسويق المحصولات البستانية وذلك لتقليل الفاقد الكبير، ووقف الاهدار فى تلك المنتجات الهامة . وقد رصدنا لهذا المنشط مبلغ 9,900 دولار .
4- إعداد دراسة وعمل مقترح لإنشاء مركز لتطوير إنتاج السمسم والفول والصمغ والقطن والكركدى فى مجالات تعظيم القيمة المضافة ، وتدريب صغار المنتجين . وقد رصدنا لهذا المنشط مبلغ 13 الف دولار .
5- إعداد دراسة لإنشاء لجنه فنية دائمة لتحديد أوجه القصور فى سياساتنا الإقتصادية وعدم فاعليتها ، ولتنسيق السياسات العامة للدولة وتكاملها لتحقيق أهداف التنمية . هذا فضلاً عن العديد من الدورات التدريبية فى مختلف المجالات الحيوية مثل العمال المهرة والحرفيين وصغار المنتجين .
وقد كنا نخطط لإنفاذ توصيات ومقترحات تلك الدراسات سواء فى المراكز التجارية أو مراكز التدريب ضمن أنشطة النافذة الثانية للمشروع والتى كان من المقرر إنفاذها فى العام 2022م المنصرم . وقد تم رصد مبلغ 2,500,000 دولار لإنفاذ أنشطة تلك النافذة.
تلك كانت اهم الثمار التى كان سوف يجنيها السودان من ذلك المشروع .فتأملوا يا أُولوا الألباب : كم خسر السودان من هذا المشروع بسبب ” الأهواء ” و” الكيد ” الشخصى . إلا أنه لا غرابة فى ذلك ولا عجب ، فحينما ” تعلو ” المصلحة الشخصية ، ” تهبط ” المصلحة الوطنية حتى تصبح من ” سقط ” المتاع . ولك الله ياوطنى الجريح .
هكذا خرج السودان من ذلك المشروع ” صفر ” اليدين ، إلا من بعض مؤتمرات وورش أقيمت هنا وهناك للإلهاء بأن هنالك مشروع يقام . بينما هى فى حقيقتها تجسيد حي للعبث. وقد كانت محصلة تلك المؤتمرات أن نال فيها المؤتمرون أطايب الطعام فى فنادق خمسة نجوم خصماً من نصيب الفقراء والجوعى والبؤساء الذين أقيم المشروع من أجلهم . بينما فاز آخرون ببعض الدولارات وأشياء أخرى مفيدة . لا أقول ذلك تحسراً على “مغانم” لم أغتنمها ، أو ” مكاسب ” لم أكتسبها . فقد تم تعيينى لاحقاً ، وبأمر وزارى عضواً فى اللجنه الوطنية للمشروع فإعتذرتُ على الفور . كما عُرض علي إعداد إحدى تلك الدراسات السابق ذكرها ،والتى كنت سوف أتقاضى عليها آلاف الدولارات ، فإعتذرت كذلك على الفور ، فأنا لستُ من العابثين .
أيها السادة : تلك هى مأساة مشروع برنامج الإطار المتكامل المعزز EIF . وأنا على إستعداد لنشر وثائق المشروع الذى أعرفه ، والذى تم التوافق عليه كاملة .ومن يجد فيها “عوجاً ” أو” ضعفاً ” أو ” قصوراً ” ، أو يرى غير الذى أورته فى هذا المشهد، فاليرمنى بحجر. وتتواصل المشاهد ……….
( ألا هل بلغت ؟، اللهم فأشهد )

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق