Uncategorized

د.محمد الجاك سليمان يكتب : الآثار الضارة لنشاط التعدين التقليدي :

د.محمد الجاك سليمان يكتب :
الآثار الضارة لنشاط التعدين التقليدي
تمهيد:
تشهد أجزاء كثيرة من السودان هذه الأيام معدلات كثيفة لهطول الأمطار لم تشهدها منذ عشرات السنين مما أدي الى حدوث موجات متفاوتة من الفيضانات خاصة في المناطق الصحراوية من جبال البحر الأحمر و ولايات الشمالية و نهر النيل و كما شهدت مناطق السودان الاخرى أيضا موجات فيضانات متفاوتة في القوة و خاصة في دارفور الكبري و كردفان الكبرى و أواسط السودان لم تعهد معدلات لهطول الامطار بهذه الكثافة منذ أزمان بعيدة. من المعروف أن تلك الولايات سالفة الذكر و خاصة الصحراوية منها تعد من أكثر الولايات ازدهارا في الأنشطة التعدينية و خاصة التعدين التقليدي للذهب و الذي يستخدم تقنيات متخلفة و خطرة في جميع مراحلة الانتاجية من الاستخراج الى المعالجة و الانتاج. كما توجد أيضا بعض الشركات الكبيرة التي تستخدم تقنيات أكثر تطورا ولكنها أيضا تمثل مخاطر جمة على البيئة و السلامة و الصحة العامة.
الان بدأ الناس يتحدثون عن إنجراف مخلفات التعدين مع السيول المتجهة نحو مصبات المياه و التي عادة ما تمثل المراكز الاستيطانية في تلك المناطق.إن الخوف كل الخوف هو ان تلك السيول قد تؤدي الى نقل مخلفات التعدين التي تحمل الكثير من بقايا كيماويات المعالجة مثل الزئبق و السيانيد و غيرهما الى المناطق الزراعية و و مجاري المياة قرب المراكز الاستيطانية.
يأتي اهتمامنا بهذا الموضوع لأن التعدين يعد صناعة في حد ذاتة لأنه تستخدم فية الكثير من عمليات التصنيع و الانتاج للوصول إلى مرحلة استخلاص المعادن المفيدة. و قد تنتج عن تلك العمليات التصنيعية الكثير من المخلفات (صلبة و سائلة و غازية) قد يترتب عليها الكثير من المخاطر.
رأينا أن ننشر هذا المقال و الذي هو جزء من محاضرة لنا كانت قد قدمناها استجابة لدعوة كريمية من ادارة الصناعة في مدينة الدامر عاصمة ولاية نهر النيل في العام ٢٠١٤م عسى و لعل ان نعي الدرس في المستقبل.

مقدمة عن صناعة التعدين:
تعتبر صناعة التعدين من أقدم الصناعات التي عرفها الإنسان على مر العصور فعلى الرغم من إيجابياتها الكبيرة والمهمة للإنسان و تأتي في مقدمتها استغلاله لمعظم الثروات المعدنية المتوفرة في الأرض وتحويلها إلى أشياء نافعة في جميع أموره الحياتية، الا أن هذه الصناعة لها بعض الآثار السلبية على البيئة أثناء عمليات الاستخراج والتصنيع والإنتاج و المخلفات الضارة وبقايا الخامات الناتجة عن عمليات الاستخراج، إضافة إلى الفضلات الضارة الناتجة عن معالجة الخامات المعدنية نظراً لاستخدام بعض المواد الكيماوية السامة.
و لا تقتصر مراحل الإنتاج المعدني على استخراج المعدن فقط بل تشمل اختيار الوسائل المناسبة لعملية التعدين لجعل الظروف البيئية داخل المنجم مناسبة و سهلة، ثم بعد ذلك مرحلة إستخراج المعدن ذاته ويعقب ذلك تجهيز المعدن المستخرج حيث يتطلب بعض العمليات التجهيزية حتى يتحول إلى سلعة اقتصادية يمكن استخدامها مباشرة في الصناعات ومن أبرز هذه العمليات إزالة الشوائب والمواد الغريبة وتنقية بعض المعادن ويتم ذلك في منطقة المناجم أو بالقرب منها معتمدة على الأساليب التقنية.

تعدين الذهب في السودان:
تاريخياً عرف السودان تعدين الذهب منذ عهد الممالك الفرعونية ربما قبل حوالي 3000 سنة. توالت وتيرة النشاط منذ ذلك الحين مروراً بعهد ممالك نبتة وكوش في الصحراء النوبية وجبال البحر الأحمر. . هنالك نشاط تعدين مماثل للذهب بمناطق بني شنقول ربما يمتد لأكثر من (200) سنة على تخوم الحدود السودانية الإثيوبية بما يُعرف الآن بجنوب النيل الأزرق. إمتد البحث حتى جبال شيبون بجبال النوبة في جنوب كردفان.
تجدد نشاط تعدين الذهب في الفترة بين 1900 إلى 1953 حيث شهد تعدين الذهب بالبلاد نشاطاً كثيفاً بدخول الآلات والتقنيات الحديثة التي أدخلها البريطانيون. وصل تعدين الذهب ذروته بعد نيل السودان الاستقلال خاصة في الشراكات مع شركات الاستثمار الأجنبية «إنجليزية وفرنسية والآن صينية و مغربية و روسية وأخريات تحت التكوين» و قد تم اكتشاف أكثر من 120 موقعاً من تلك المواقع القديمة المكتشفة بهذه المناطق ,. وبلغ إنتاج شركة أرياب السودانية الفرنسية في التسعينيات من القرن الماضي ستة أطنان من الذهب الخالص في العام.

في خلال العشرين عاماً الماضية إرتفعت وتيرة تعدين الذهب الأهلي كنشاط موازي للأنشطة التقليدية الأخرى كالزراعة والرعي بالريف. و يُقدر عدد المعدنين التقليدين بأكثر من خمسمائة ألف معدن. يعزى إنتشار هذا النشاط إلى إرتفاع أسعار الذهب عالمياً وتحسن البنيات التحتية بالبلاد من اتصالات وطرق وغيرها. وقد ساهم هذا النشاط في إتاحة فرص عمل للمواطنين مما ساعد في محاربة الفقر، ونسبةً لأهمية الذهب في هذه المرحلة لابد من تنظيمه وضبطه حفاظاً على البيئة والموارد وحفظ حقوق الأجيال القادمة ورفعاً لقدرات الـمُـعدن الأهلي .

أهم سمات و فوائد أعمــال التعدين التقليدي :
تعبر من الأنشطة الموجودة علي نطاق جغرافي واسع في أنحاء العالم. كما تعد واحدة من الأنشطة كثيفة العمالة و تساهم في تغذية الأسواق المحلية بمنتجات عالية الطلب كما تؤدي توفر مجموعة واسعة من السلع و المنتجات، يعتبر احد خيارات التوظيف في المناطق الفقيرة. يحقق ايضا العديد من الشراكات النافعة، تعمل الانشطة التعدينية علي تنويع و تحفيز الاقتصاديات المحلية’ كما تولد وتدفع سلاسل الإنتاج المحلي
يعمل التعدين علي تطوير التنمية الجيوسياسية. يعمل على التخفيف من حدة الفقر، خاصة في المناطق الريفية’ايضا الحد من الهجرة من الريف إلى الحضر، وخاصة بالنسبة للشباب العاطلين عن العمل, يعد من أحدى عوامل الحفاظ على الصلة الحيوية بين الشعب والأرض, يزيد من فرص خلق أنشطة اقتصادية بديلة كما يزيد من المساهمة في الدخل القومي، و زيادة إيرادات الدولة.

الآثار البيئية والصحية و الاقتصادية للتعدين:
يعتبر نشاط التعدين نشاط ذو تأثيرات متضادة من حيث أنها تجلب المنافع كما لها القدرة علي إحداث الضرر.
تنشأ المنفعة من استحداث الدخل، و تشغيل عدد كبير من العمالة، وكذلك جلب النقد الأجنبي من تصدير المعادن النفيسة المستخرجة إذا استغلت بطريقة منظمة و بشكل صحيح.
أما الآثار المدمرة فتتصل بتدهور المعايير والاشتراطات الفنية والبيئية والصحية وسوء الإدارة مما ينتج عنه بيئة عمل غير صحية و هذا ينعكس بدورة في تدهور معايير صحة وسلامة العاملين وتخريب للبيئية,
يزيد من معدلات انتشار الملوثات الكيمائية الضارة كالزئبق التي تؤدي إلى مخاطر على الاغذية و المياه , هناك ضعف نشاط الإصحاح البيئي في مناطق التعدين تنشأ من التعرض للغبار المتولد خلال أنشطة التعدين كما تعرض المعدنون للدغات العقارب والثعابين وتكثر بينهم إصابات العمل نتيجة لانهيار الحفر و إصابات العمل الاخري التي تنتج عن تطاير شظايا الصخور و الاختناق في الحفر نتيجة لعدم وجود وسائل تهوية جيدة.
كما يمكن أن ينشأ التسمم ببعض العناصر السامة الموجودة أصلا في خامات المعادن مثل الزرنيخ والذي يوجد خاصة في الحفر العميقة نتيجة لمعدن الارزنوبايرايت المصاحب احيانا لودائع الذهب.
ينشأ نتيجة لعمليات و مخلفات التعدين تشويه لمظهر الأرض نتيجة للحفر والتجاويف والخنادق الأرضية و اكوام وبقايا الخامات الناتجة عن عمليات الاستخراج,
يعتمد المدنون التقليدىون على الوقود النباتي في إعداد وطهي طعامهم نتيجة لعدم توفر سلعة الغاز لبعد مناطق التعدين عن المراكز الحضرية وبذلك يساهمون في إزالة الغطاء النباتي الشحيح أصلا, يتعرضون للعوامل الجوية القاسية مثل البرد والحرارة والأتربة والإمطار. مما قد يصيبهم بالامراض

مخاطر استخدام الزئبق:
يعد الزئبق المستخدم في عملية فصل الذهب من الشوائب الناعمة في مرحلة  المرِّكزات الرطبة (ناتج الغسيل أو ما يسمى المركزات السوداء الناعمة) من أخطر الملوثات الموجودة في التعدين الأهلي، حيث يرتبط الزئبق مع الذهب مكوناً ما يسمى بالملغم. والذي يتم تسخينه لتبخير الزئبق الذي ينطلق إلى داخل الغلاف الجوي. هذا و يتعرض من يعملون في عمليات التعدين هذه للزئبق بثلاثة طرق, الأول عن طريق تلامسه مع الجلد و الثاني عن طرق إستنشاق بخاره. و ثالثا قد يبتلع هؤلاء العمال أيضاً الزئبق بشكل عرضي.
يفيد علماء الصحة انه عندما يتم استنشاقه عن طريق الرئتين يتم امتصاصه و ينتشر في جميع أجزاء الجسم، ويعبر عنصر الزئبق الحاجز الدموي إلى الدماغ و الجهاز العصبي ويمكنه أن يحدث تأثيرات عصبية فيزيائية وعصبية نفسية وتأثيرات على  الوعي والإدراك، وهو من أكثر المعادن الثقيلة سمية.
هناك آخرون قد يتعرضون له أيضاً عند حرق الملغم داخل المباني مع إنعدام التهوية الجيدة كما هو الحال في البيوت ومحلات بيع الذهب. ويمكن أن يتعرض أفراد الأسرة والعمال الآخرون والجيران للزئبق بهذه الطريقة.
يفيد علماء الصحة ايضا ان التلوث البيئي بالزئبق يؤدي أيضاً إلى إرتفاع مستويات الزئبق في الكائنات الحية المحلية مثل الطيور و الأسماك. ويشكل إستهلاك الكائنات الملوثة مساراً آخر من مسارات التعرض للزئبق في المجتمعات المحلية المحيطة بمناطق عمليات التعدين التقليدي. علاوة على تناول المنتجات الزراعية المزروعة في بيئة غنية بمركبات الزئبق.
ان خطر التعرض لمثل هذه الملوثات يكمن في أثرها التراكمي الذي يتعاظم  ويزداد داخل جسم الإنسان يوماً بعد يوم، بينما يسير هو واقفاً علي رجليه، إلي ان ينهكه عناء المرض في لحظة يتعثر فيها  العلاج ويستبعد فيها الشفاء.

إستخدام السيانيد و تاثيراته البيئية:
تعتبر عملية استخلاص الذهب بمحلول السيانيد أكثر التقنيات شيوعا لاستخراج الذهب من الخامات منخفضة المحتوي من معدن الذهب عن طريق تحويل الذهب إلى محلول قابل للذوبان لمركب سينايد الصوديوم في الماء. وهذه هي العملية الأكثر شيوعا لإستخلاص الذهب لفصل المعدن النفيس من الصخر المطحون ناعما حيث تشير بعض المصادر انه مازالت نحو 90 في المائة من مناجم الذهب في جميع أنحاء العالم تستخدم محلول السيانيد لمعالجة الخام. في هذه العملية يتم رش محلول سيانيد الصوديوم المخفف على الخام المسحوق الذي يتم وضعه في أكوام أو في أحواض مغلقة, وفي هذه العملية ترتبط جزيئات السيانيد بجزيئات الذهب الدقيقة لتشكيل مركب سيانيد الذهب القابل للذوبان في الماء و الذي يمكن استرداد الذهب منه لاحقا.
بطبيعة الحال لا يمكن إسترجاع جميع السيانيد. حيث يبقى بعض من ذلك السيانيد المسكوب، ضمن نفايات المناجم التي غالبا ما يتم دفن بعضها تحت الأرض قريب من المياه الجوفية، ويمثل ذلك لمسئولي الصحة العامة قلقا بشأن آثاره على مياه الشرب وعلى النظم الإيكولوجية المحيطة ، يميل السيانيد أيضا للارتباط بسهولة مع العديد من العناصر الكيميائية الأخرى وكما هو معروف لتشكيل، ربما العديد من المركبات المختلفة”. في حين أن العديد من هذه المركبات أقل سمية من السيانيد الأصلي، عليه يمكن أن يظل أثرها مستمر في البيئة وتتراكم في أنسجة الأسماك والنبات، و بالتالي تنتقل إلى السلسلة الغذائية.

أهم التوصــــيـــات:
تبني عمليات مكثفة و في أسرع وقت ممكن لتدريب عمال التعدين التقليدي و الصغير على تقنيات استخراج الذهب التي لا تستخدم الزئبق بالتعاون مع المراكز البحثية وتمويل العمليات البحثية في هذا المجال، تدريب العاملين في المجال الطبي على تشخيص أكثر كفاءة لمعرفة أعراض التسمم بالكيماويات الخطرة المستخدمة في التعدين. تنظيم دورات توعية تثقيفية لممارسي التعدين التقليدي في المجال المهني لرفع السقف الإنتاجي عن طريق إتباع الأساليب العلمية. دعوة ممارسي التعدين التقليدي للتعرف على تطبيق المعايير البيئية والصحية والتي سوف تساعد علي حمايتهم من المخاطر. إيجاد و دعم مؤسسات تسعى لتطوير ممارسة التعدين التقليدي و الإشراف على تدريبهم. تشجيع الشراكات بين المعدنين التقليدين للاستفادة من إمكانيات وخبرات بعضهم البعض. العمل على استيعاب نسبة من العمالة في الشركات الحديثة بعد إعادة تأهيلهم مهنيا. تشجيع المعدنين علي إرتداء الملابس الواقية. إقامة تعاون مع الدول والمنظمات ذات الخبرة السابقة والمتميزة في هذا المجال. تيسير و استحداث نظم تمويل مناسبة ومستديمة للتطوير عمليات التعدين التقليدي. تعزيز وتطوير قدرات صغار المعدنين . استحداث مكانة مهنية مناسبة لعمال التعدين الصغير. تشجيع الاهتمام بالإنتاج شبة الصناعي في قطاع التعدين الصغير. تحديد نطاق (مجال) للتعدين الحرفي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق