رأي
طريق الخلاص أضواء علي المبادرة الوطنية جمال الدين محند صالح يكتب
بسم الله الرحمن الرحيم
طريق الخلاص
أضواء علي المبادرة الوطنية
تحدثنا في مقالات سابقة عن صناعة الفتن. أوضحنا فيها أن الفتن قد أصبحت “صناعة “، حيث تصنٌع كما تصنٌع الحلوي والبسكويت في المعامل. إلا أن الفتن هي صناعة لأحداث محددة الهدف، محدودة المدى. كزرع بذور الخلاف بين جماعة من الجماعات، أو إحداث إنشقاق داخل حزب من الاحزاب، أو إحداث صراعات قبلية بين مجموعة من القبائل، أو إحياء الجهوية والعنصرية داخل أمة من الأمم، أو نشر االفساد و التخريب داخل قطاع من القطاعات الإقتصادية لخلق أزمة. تلك كُلها أنواع مختلفة من الفتن التي يتم تصنيعها عن عمد خدمة لأهداف و أغراض محددة سلفاً. لكن الفتن نفسها بوصفها منتجات مصنعة تعتبر هي الأخرى “مدخلات” لصناعات أبعد هدفاً و أكبر أثرا و أكثر تدميراً و تخريباً. تلك هي صناعة “الزلازل” و “البراكين”.
الزلازل و البراكين هي في الأصل أحداث كونية من أقدار رب العالمين. يصيب بها من يشاء، متي شاء، وكيف شاء و هي ليست كلها شر محض. بل هي و إن صاحبتها بعض الشرور و الآثار الضارة بالبشر، إلا أنها كثيرا ًما تحمل في طياتها فوائد عظيمة للإنسان بوصفها أداة للتوازن البيئي. أما الزلازل “المصنوعة” فهي خلافاً لذلك، هي شر محض. ذلك لانها تاْتي تعبيراً عن خبث البشر و نزعة الشر و إرادة الخراب في نفوسهم. إن ما نعيشة الآن من أحداث كارثية ومأساوية هي تعبير حي عن تلك النزعة الشريرة و إرادة الخراب التي عبرت عن نفسها بهذا الشكل الزلزالي. فمن حيث النطاق، لم يضرب الزلزال منطقة جغرافية دون الأخري أو جماعة محددة دون الجماعات أو قطاع دون سائر القطاعات. بل شمل الزلزال كل بقاع السودان، بكل جماعاته وقطاعاته بتاثيرات متفاوتة تبعاً للبعد أو القرب من مركز الزلزال. إن ملخص الأثر الكُلي لهذا الزلزال في جملته أنه وضع الأساس المتين لدولة “القرون الوسطي” في القرن الواحد و العشرين بالسودان.
تجلي ذلك الأساس في عدد من المظاهر، نذكر منها ما يلي:
أولاً : خلخل المؤسسات الرسمية التي تمثل الأعمدة التي يقوم عليها بنيان الدولة.
ثانياً: هدم الثوابت و المبادئ و القيم التي يقوم عليها تماسك المجتمع وتعصمه من التفسخ والإنحلال.
ثالثاً: زعزع الثقة في النفس و إحترام الذات و الولاء للوطن.
رابعاً: استباح الموارد والثروات التي تقوم عليها حياة الامة.
خامساً: رسخ عدم إحترام القانون و النظام و قنن الفوضى و استدعى بربرية القرون الوسطى.
هذا الواقع المتصدع المأزوم الذي خلفه الزلزال هيئ البيئة المناسبة لقيام العديد من “البراكين”.
فكما أن البراكين الطبيعية عادة ما تنشط و تثور في مناطق الهشاشة الأرضية، كذلك من المتوقع تفجر العديد من البراكين “المصنو عة” الناتجة عن تلك الخلخلة وعمليات الهدم المتعمدة التي خلفها الزلزال و التي أفضت إلى نوع من الهشاشة الإجتماعية و السياسية. تلك هي إرهاصات المستقبل علي ضوء ما يجري الآن.
إذاً: لماذا المبادرة الوطنية؟
تضمنت المبادرة الوطنية ثلاثة محاور رئيسة من بين عدة محاور و هي: – محور تشكيل الحكومة.
– إعادة تشكيل مجلس السيادة.
– محور الترتيبات الامنية.
ففي محور تشكيل الحكومة نادت المبادرة بالتوافق علي تفويض مجلس عموم مديري الجامعات السودانية لتشكيل الحكومة.
لماذا مجلس عموم مديري الجامعات؟
من المعلوم أنه منذ إندلاع الثورة قد أجمعت كل الأصوات علي المناداة بتشكيل حكومة كفاءآت مهنية. إلا أنه لم تفلح القوى السياسية في الإتفاق علي تشكيل الحكومة، مما أدخل البلاد في حالة من الإنسداد السياسي الذي أفضى بنا إلي التشرزم و التصدع. فإذا كان الهدف هو حكومة كفاءاَت مهنية، فإن مديري الجامعات هم بالضرورة كفاءاَت أكاديمية مهنية و إن لم يكن الحال كذلك فعلى الدنيا السلام. أما إن عجز مديرو الجامعات عن تشكيل حكومة من بينهم فالنعزي أنفسنا و لننتظر قدرنا المحتوم. فلماذا البحث عن مجهول هو موجود بين ايدينا؟!
أما السبب الثاني الذي يدعونا لتفويض مجلس مديري الجامعات هو أننا نعيش الآن حالة “التيه” الناتج عن حالة إنهيار الدولة. لقد علمتنا التجارب أنه في مثل هذه الظروف عادة ما يسهل قفز “النكرات” و “الماْجورين” و “المغامرين” إلي كراسي السلطة. كما أن حالة “الذهول” و “التيه” التي تسود المجتمع الاَن تسوغ له قبول أي وافد. فإن لم نعمل علي تجاوز حالة الإنسداد السياسي الماثل الآن فالنهيئ أنفسنا لتكرار النموذج “العلاوي” في العراق أو “الكرزايي” في أفغانستان أو “الحفتري” في ليبيا. علما بان مديري الجامعات هم الجسم الوحيد الجاهز والمؤهل أكثر من غيره لسد هذا الفراغ.
في المحور الثاني نادت المبادرة بالتوافق على تفويض مجلس النظام الأهلي لإعادة تشكيل مجلس السيادة. فلماذا إذن مجلس النظام الاهلي؟
قلنا إن الزلزال الذي حدث قد هيأ البلاد و أرسى القواعد اللازمة لإقامة دولة القرون الوسطي و سوف يعمل الشياطين في المرحلة القادمة علي رفع تلك القواعد و إقامة الدولة علي تلك الأرضية الممهدة و التي سوف يكون شعارها “حرب الجميع ضد الجميع” و سوف تكون نواة تلك الدولة القرن أوسطية منطقة ديار البقارة. فهي أكثر جهات البلاد تأهيلاً لقيام مثل تلك الدولة لتوفر الشروط الموضوعية لقيامها. هناك سيتم تفجير أول “البراكين” المصنوعة عبر إشعال حرب أهلية بين “بطون” قبائل البقارة نفسها. فما هي الشواهد الدالة علي ذلك؟
من المعلوم أن هناك حربا “مؤجلة” بين موسي هلال و قائد الدعم السريع و سيتم “تفعيل” تلك الحرب في الوقت المناسب و ذلك لخدمة عدة أهداف من بينها عدم السماح لقائد الدعم السريع بتجاوز سقف النفوذ المسموح به بإستغلال نشوة النصر الذي حققه علي القوات المسلحة و السير في إتجاه لا يرضي الشياطين و ذلك بخلق نوع من توازن القوى بين الجناحين المتصارعين، لتكون الحرب “سجالا” من شاكلة لا غالب و لا مغلوب حتي يتم حصد أكبر قدر ممكن من النفوس و توسيع نطاق التخريب و التدمير في المنطقة. فضلاً عن النية المبيتة في نشر “شرار” الحرب بالمنطقة المجاورة. و سوف يفرح لذلك الشياطين و كثير من السُذج و المغفلين الذين ستدور الدائرة عليهم بعد حين!!
إن فارق القوي الكبير الكائن الاَن بين الجناحين المتحاربين سوف لن يكون عائقاً لدى “صُنٌاع” الحروب. فإن “منحة” مقدارها بضع ملايين من الدولارات كافية لبناء جيش قوي لأي قائد ميداني يطمح في الوصول إلى السلطة. و سوف لن تكون تلك “المنحة” “صدقة” لله. بل سوف يتم تمويلها من عائدات بضع “حاويات” من المخدرات و التي سوف لن يتم تسجيلها هذة المرة في مضابط الشرطة ضد “مجهول” في حال إكتشافها كما كان عليه الحال في ذلك الزمن “الجميل” حينما كانت لنا “شبه دولة”!!! بل سيتم “تخليصها” كما يخلص العدس و الأرز و القمح و غيرها من السلع الضرورية، تأكيداً لمبدأ (الإختشوا ماتوا)!! أما العائد المحلي لتلك الحاويات المسمومة فسوف يتم إسترجاعه خارج البلاد إلى “المانحين” في صورة “نقد أجنبي” عن طريق شراء “سمسم” و “فول سوداني” و “قطن”، تطبيقاً واعياً للقول الماثور (من دقنو و أفتلو). و هكذا سوف تمول الحرب “المصنوعة” من جهد و عرق جبين الشعب السوداني المغلوب علي أمره فتحصد أطفالاً “رُضعا” و شيوخاً “رُكٌعا” وبهائم “رُتٌعا”. بينما يهيم شبابنا التائه في “الجنبات” في دنيا “الأحلام” و عوالم “الخيال”!!!
أما البركان الثاني و الذي توافرت كل الشروط الموضوعية لثورته فيكمن في إنعاش الحرب الأهلية بين “العرب” و “الزُرقه”. لقد أحدثت الحرب التي تدور الاَن تطورات مثيرة و تغيرات جوهرية في طبيعة الصراع بين “العرب” و “الزرقه”، كلها تدفع في إتحاه تفاقم الأو ضاع بين الطرفين؛ نذكر منها:
أولاً: حالة الثراء الفاحش والمفاجيء الذي هبط علي بعض المنتمين لقبائل البقارة من إفرازات الحرب و توافر أكثر الاَليات و الوسائل فاعلية في الصراعات القبلية، مما سيؤدي بشكل صارخ إلى إختلال ميزان القوى بين الجانبين مما يجعل “الزرقة” فريسة سهلة في أيدي “العرب”. من جانب آخر نجد أن تغلغل روح الثأر في نفوس “الزرقة” و التي بلغت مداها في إغتيال والي غرب دار فور سوف تكون “الطُعم” الدسم في أيدي “الشياطين”. و مما يجدر ذكره في هذا الصدد أن كل تلك التطورات لم تأت وليدة الصدف، بل هي أحداث محسوبة و محددة الأهداف سلفاً، يتم “تصنيعها” بقدر ومقدار وفقاً لخطط شيطانية. و هكذا سوف تتأس نواة دولة القرون الوسطي في غرب السودان.
و لما كان المخطط في جملته هو إغراق البلاد بأكملها في جحيم الحرب، فسوف لن يتوقف مسعى “صُنٌاع” الشر عند تلك البراكين الجانبية المعزولة، بل سوف يتواصل الجهد لفتح “مسارات” و “قنوات” تربط تلك البراكين مع بعضها البعض وتوسع نطاق الحرب علي المستوى القومي. في هذا المنحي سوف يتم العمل على تنشيط الصراع القديم المتجدد، المتمثل في جدلية (الغرابة – الجلابة). لقد هيأت الحرب الدائرة الاَن البيئة المناسبة لإحياء هذا الجانب من الصراع. فقد طالت عمليات النهب و التخريب و التدمير معظم الأسر السودانية و خلفت آثارا نفسية صادمة و خلقت شعورا سلبيا تجاه “الغرابة” بوصفهم “راس الرُمح” في هذه الحرب، مما أوجد حالة من الغضب “المكتوم” تجاه “الغرابه” و هذا مما يسعى إليه الشياطين. علي الرغم من أن معظم الغرابة هم أنفسهم ضحايا لهذه الحرب و من المعلوم أن عمليات النهب و التخريب التي جرت في العاصمة لم تفرق ما بين غرابة و جلابة، ودونكم ما يجري الآن في ولايات كردفان و ما تناقلته عنها الوسائط و دعكم عما يجري في دارفور نفسها!! و رغماً عن كل تلك الحقائق، فلا معنى للتمييز بين “بطن” و “بطن” أو بين “زُرقة” و “حُمره”، فالكل عند “الجلابة” “غرابة” و هذا ما يسعى له الشياطين أيضا. لذلك سوف تعمل قوى الشر علي إستغلال هذا الظرف المناسب بالنفخ في نار الفتنة وتقوية الإصطفاف علي أساس (غرابه – جلابة) و الذي ربما وصل في حده الأقصى إلى المطالبة بفصل غرب السودان كمسعى للتخلص من العِبء الثقيل الذي ظل يمثله الغرابة في نظر الجلابة علي غرار ما حدث لجنوب السودان. عند هذا الحد تكون البلاد قد تهيأت باكملها و تم إعداد “المسرح” لحرب “الجميع ضد الجميع”. عندها سوف تتعلق اَمال الشياطين بالقضاء التام علي مجتمع اسمه “السودان”. فعند الشياطين لا فرق بين “شمال” و “جنوب” أو بين “شرق” و “غرب”. لا فرق عندهم بين “غرابة” و “جلابة”، فكلهم عند “الشياطين” “سودان” و هو أمة مغضوب عليها. فلابد من خنق “المارد” حتي الموت داخل “القمقُم” و عدم السماح له بالإفلات، لأن إفلات المارد و خروجه إلى رحاب الحياة يعني إنطلاق أمة لها موعد مع التاريخ. هذا ما يخشاه الشياطين.
هذا ما يراد لنا ويحاك ضدنا و تلك هي الشرور التي تحيط بنا. لا شك هي فتن كقطع الليل المظلم و لن يقوى على مجابهتها سوي تماسك النظام الأهلي فهو صمام الأمان لبلادنا. و لهذا كانت المناداة بتاييد دور النظام الأهلي في المشهد وهو ما تسعى إليه المبادرة الوطنية. لذلك فان المبادرة الوطنية هي قارب نجاة الوطن و دونها “الطوفان”.
أيها الساده: لقد هلكت أحزابنا “اللاوطنية” و تحلل رُفاتها و تلاشت غير ماْسوف عليها. فإن لم يكن “للعلماء” في الجامعات صوت و البلاد “تستغيث” و لم يكن “للحكماء” في النظام الأهلي حراك و البلاد “تحتضر”، فما الفرق بينهم و “الهالكين”؟!!!
أيها السادة: أليس عاراً أن نقف جميعنا – عامة و علماء و حكماء – في صف المتفرجين في إنتظار المبادرة الأمريكية أو السعودية أو الإماراتية لتقودنا إلى بر الأمان؟!!! و اي أمان هو ما سوف تقودنا إليه أمريكا أو الإمارات؟!!! أليس فينا رجل رشيد؟!!!
ذاك ما أنادي و أنصح به و ياليت قومي يستبينون النصح قبل ضُحى الغد!
(ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد).
جمال الدين محمد صالح
٨ اغسطس ٢٠٢٣م