رأي

لإعلام وتعزيز الهوية الوطنية النذير إبراهيم العاقب

الإعلام وتعزيز الهوية الوطنية
النذير إبراهيم العاقب

ليس من شك أن الهوية الوطنية تعتبر الركيزة الأساسية الجامعة للشعوب والبانية لجسور التفاهم والإنتماء الوطني الحق، من منطلق تمثيلها للقيم والمبادئ المُعزِزَة للولاء للوطن والشعور بالفخر بالإنتماء له.
ومع تزايد العولمة وأُطر التنوُّع الثقافي، بات من الضروري تعزيز الولاء الوطني لجهة الحفاظ على التماسك الإجتماعي وتعزيز الوحدة الوطنية.
وتأتي أهمية تعزيز الهوية الوطنية
والتماسك الإجتماعي لدينا في السودان من منطلق أز الهوية الوطنية تُسهم إسهاماً فاعلاً في توحيد أفراد المجتمع، بغض النظر عن خلفياتهم الثقافية والإجتماعية، بحكم أنها تُعزِّز الشعور بالإنتماء والإلتزام المشترك تجاه الوطن، وتخلق نوع من التعاضد بين أفراد المجتمع.
بجانب تعزيز الفخر الوطني من خلال بناء هوية وطنية قوية، يكتسب الأفراد من خلالها إحساساً أكبر بالفخر بوطنهم وقِيَمِهِ السامقة، ويزيد من الإنتماء للوطن والذي يمكن استثماره بأقصى ما يكون وفي إطار الهوية الوطنية المحضة، بما يؤدي إلى دعم التنمية رفد وتعزيز الإقتصادية الاجتماعية، والحفاظ على التراث والتاريخ من خلال الولاء الكامل للوطن بما يُساعد في الحفاظ على التراث الثقافي والتاريخي، ويضمن للأجيال القادمة توارث تلك القيم والعادات، لاسيَّما وأنه من الأهمية بمكان وجود أرضية مشتركة تجمع أفراد المجتمع، للمحافظة سوياً على تراثهم وتاريخهم ووحدتهم.
وهنا تبرز بجلاء الأهمية القصوى لدور الإعلام في تعزيز الهوية الوطنية باعتباره منظومة تعمل في إطار باقي منظومات المجتمع، أهمية لها وجاهتها وحجيتها الدامغة، وليس من باب نفض الأيادي من الأدوار والاستحقاقات الوطنية التي يجب أن يتحملها الجميع تجاه الوطن الأم، والإلقاء بكامل المسؤولية عليه، ولكن لأن وسائل الإعلام أصبحت تشكل حجر الأساس في المحافظة على الوحدة الوطنيَّة، الأمر الذي يُحتِّم على الإعلام ضرورة الإسهام الفاعل تعزيز الهوية الوطنية، والتي
تعتبر جزء لا يتجزأ من كيان المجتمع، حيث تعكس ثقافته وتاريخه وقيمه المشتركة، في ظل وجود العولمة والتغيرات السريعة التي يشهدها العالم من حولنا اليوم، وبالتالي أصبح من الضروري العمل على تعزيز هذه الهوية في نفس الأفراد، خاصة الأجيال الناشئة، فهي ليست مجرد مسألة ثقافية، بل تعتبر بمثابة إستثمار في المستقبل يُسهِم في بناء مجتمع متماسك وفخور بجذوره.
ولتعزيز الهوية الوطنية وأهميتها تستوجب الضرورة على الإعلام العمل بجدية لغرس القيم الوطنية في الأجيال الناشئة من خلال المناهج الدراسية والأنشطة اللاصفيَّة، من خلال معرفة تاريخهم وإنجازات وطنهم والتضحيات التي قُدِّمَت حتى تصل الأجيال الناشئة إلى ما هم فيه الآن، وأن هذه المسيرة بحاجة إلى تعهد وإلى من يصل بها إلى بر الأمان، فضلاً عن أهمية دعم الفعاليات الثقافية التي تُعزِّز الهوية الوطنية وتُسهِم في إظهار التنوع الثقافي، فمن خلال هذه الفعاليات يتم تعزيز التعرف على الوطن وهويته، ويمكن التعبير عن هوية الوطن بمختلف الأنشطة الثقافية المتمثلة في الأفلام الوثائقية والمسرحيات والرسومات المعبرة عن الوطن وهويته وتاريخه، وتعزيز السياحة الوطنية للإطِّلاع على معالم التاريخ والهوية في مختلف أرجاء الوطن، وتشجيع السياحة الداخلية حتى يعرف أفراد الوطن عن وطنهم الكثير، وأن لديهم من التاريخ ما يفخرون به، وأن الإطِّلاع على هذه المعالم ليس بقاصر على السياح من الدول الأخرى، ولكنهم أولىٰ بمعرفة تاريخ وطنهم وماضيه.
ومع الأهمية الكبرى التي إكتسبتها وسائل الإعلام الجديدة اليوم، والتي لم تعد مجرد أداة لنقل المعرفة أو نقل الأخبار أو وسيلة للترفيه والتسلية فحسب، بل أصبحت مساهماً فعالاً في تشكيل عقل الإنسان وسلوكه، وإمتلاكها لقدرات عالية في التأثير والإقناع والتوجيه، والتأثير في جوهر الثقافات المحلية وثوابت الهوية المحلية، مثل الأخلاق والدين والتاريخ واللغة، مما جعل لها دوراً مهماً ومؤثراً في مكونات الهوية الوطنية والحفاظ عليها جنباً إلى جنب مع بقية مؤسسات التنشئة الإجتماعية الأخرى، مع التركيز على وسائل الإعلام المحلية المتمثلة في الصحف والقنوات المحلية والإذاعات المحلية، والتي تهتم بتقديم واقع ثقافي ثري ومتميز عن المجتمعات المحلية التي تنتمي إليها، وبالتالي يتحتِّم عليها المساهمة في الحفاظ على هويتها وتماسكها وتعزيز إنتمائها.
ولا يستطيع أحد أن ينكر ذلك، بحكم التأثير المتعاظم للإعلام في التفاعل مع مختلف المنظومات، سواء كانت المنظومة الإقتصادية أو الإجتماعية أو السياسية أو الثقافية، وسواء على المستوى الداخلي أو من خلال هذا الهدير الذي لا يتوقف من الرسائل الإعلامية عبر السماوات المفتوحة والتي فرضتها طبيعة العصر التي أزالت الحدود الإعلامية بين الدول بشكل بات الحديث معه عن السيادة الإعلامية للدولة جزءاً مهماً من التراث، لا تعبيراً عن الواقع الذي لم يَعُد بمقدور أحد أن يتحكم أو يَحِد من فيض الرسائل الإعلامية المحيطة به، والتي تحاصر الفرد حد الإختناق، بغثها وسمينها.
وبما أن الأمم الحيَّة والتي تتمايز عن غيرها في منظوماتها القيمية وإيقاع حياتها، وتحرص على الحفاظ على جوهر وجودها وما يميز أبناءها مع الإنفتاح على كافة التيارات الفكرية والثقافية، وبعيداً عن التقوقع والإنكفاء على الذات، تُدرِك دائماً أن سر وجودها ومبعث قوتها في الحفاظ على هويتها، من هنا تأتي الأهمية القصوى لضرورة عقد ملتقى إعلامي وطني جامع، وبإشراف مباشر من وزارة الإعلام وبرعاية رئاسة مجلس السيادة بعنوان.. دور الإعلام في تعزيز والهوية الوطنية.. من منطلق المسؤولية الإجتماعية القصوى لتعزيز الهويةالوطنية، وتكريساً لدور مختلف المؤسسات الرسمية والأهلية في طرح القضايا الوطنية، وإلقاء الضوء على أهمية أن يتحمل كل صاحب فكر ورأي مسؤوليته تجاه أبناء وطنه للحفاظ على السياج الجامع لهم، والدور المأمول من وسائل الإعلام في تعزيز الهوية الوطنية والثقافية للمجتمع السوداني في هذه المرحلة الحرجة التي تمر بكافة مجتمعاته جراء الحرب الضروس التي كادت تعم كل البلاد، وفي ظل التحديات التي تواجه المجتمع السوداني ككل، وهي لا تتعلق بالجوانب التقنية بقدر ما تتعلق بالمضمون القادر على أن يحتفظ بمشاهديه، والعمل من خلال هدف كبير واضح يتمثل في تعزيز الخصوصية الثقافية لمجتمعنا وتحفيزه على التماسك والحفاظ على هويته الوطنية.
وذلك مز منطلق أن المنظومة الإعلامية لا يمكن أن تعمل بمعزل عن المنظومة الثقافية للمجتمع، كما أن وسائل الإعلام هي المرآة التي ترى الشعوب وجهها الحضاري من خلالها، ومن أراد أن يتعرف على ما يشغل فكر شعب من الشعوب وما يفكر فيه، وكذلك ما يَسُودُه من قِيَم، ما عليه إلا أن يتفحص ما يُكتَب ويُذَاع عبر وسائله الإعلامية، سواء كانت وسائل حكومية أو حتى في الأنظمة التجارية المغرقة في الرغبة في الربح، إلا أن بعد المسؤولية الإجتماعية لوسائل الإعلام في ممارستها، يظل شاخصاً مهما كانت السياسة الإعلامية التي تنتهجها.
نخلص إلى أن العمل في إطار تعزيز الهوية الوطنية هو الذي يعطي التميز للرسالة الإعلامية، وما يربط الفرد بوسيلة إعلامية هو أن يرى نفسه وقضاياه وما يشغله من خلالها، وهو ما ينعكس على حالة الرِضى بين وسائل الإعلام وبين أفراد المجتمع، كما أن مشاركة وسائل الإعلام في التعامل مع التحديات التي تواجه المجتمع والقضايا الواجب علاجها، وتعظيم دورها في ذلك هو ما يجعل المواطن ينظر إليها باعتباره مواطناً صالحاً، ويُعمِّق شعوره بأنها تسعى إلى ما فيه الخير له ولغيره، كأداة للتنوير وبث التَوَحُّد، لا مِعوَل هدم وبث للفُرقَةِ والإنقسام، وعندما تُغَلِّب وسائل الإعلام مصالح الوطن وصالح المواطن على بقية المصالح، تَبنِي بذلك جداراً من الثقة بينها وبين أبنائه.
وبالضرورة فإن هناك أدواراً أساسية يجب أن تتحملها وسائل الإعلام، لتساهم في تعزيز الهوية الوطنية بشكل متكامل ومتناسق مع باقي المؤسسات، من خلال تناول القضايا الحقيقية التي تهم الوطز والمواطن وتشغل فكره، وتساهم معه في وضع الحلول الناجعة لها، مثل قضايا العنف والتنشئة الإجتماعية السليمة، والإنحرافات السلوكية لدى بعض الشباب، والسلوكيات الغريبة عن مجتمعاتنا السودانية، وليس آخرها بالطبع الحروبات والخلافات الدامية التي تجتاح البلاد بين الفينة والأخرى، والتي تحتاج وسائل الإعلام إلى تناولها بصدق وموضوعية ومهنية، عبر مشاركة مجتمعية تنكأ الجرح لتعرف كيف تصف العلاج، لاسيَّما وأن تعزيز الهوية الوطنية لن يكون إلا بتعزيز الهوية الثقافية، والتي لا تكون بغير تمكين اللغة العامة للدولة السودانية بإعتبارها الوعاء الحافظ لها، لأن اللغة هي الشفرة التي تميز المجتمعات بعضها عن بعض، ليس فقط في التواصل، ولكن في الإبداع والفكر، ولا يمكن أن يَفهَم معنى الوطنية بحق، من يُدِير ظهره للغته الأم، أو يرى أنها تُعِيقُه عن الإبداع والتقدُّم، بل إن أي أمة لم تحقق إنجازاً قط على سُلَّم الحضارة الإنسانية بعيداً عن لغتها الأم.
كما أن تعزيز الهوية الوطنية عبر وسائل الإعلام، لن يأتي إلا من خلال تقديم برامج بعيدة عن النسخ أو التعريب أو التقليد للبرامج الأجنبية، ولكن تقديم واقعنا الثقافي الثري والمتميز من خلال إبداعٍ وطني خالص، فضلاً عن أعمال درامية كاشفة عن رحلة الجهد والعرق التي مرت بها بلادنا، وسيرة قادتها والمخلصين من أبنائها من خلال رؤية حيَّة يحفظها الأبناء، بإعتبار أن الدراما هي الذاكرة المرئية لتاريخ الأمم، ومن خلال تحمُّل وسائل الإعلام لمسؤوليتها الإجتماعية وأمانة الكلمة وخطورتها ودورها في نشر الوعي بين أبناء الوطن بالتحديات التي تواجه مسيرته المُظَفَّرَة عبر غرس قيم الوفاء له، والزود عن كل حبَّة رملٍ من رماله وبذل النفس والمال دونه، بإعتبار ذلك أحد أهم وظائف الإعلام، بعيداً عن الإغراق في وظائف الترفيه على حساب باقي الوظائف، وبحكم أن تعزيز الهوية الوطنية يجب أن لا تعتبره وسائل الإعلام وظيفة موسمية ترتبط بمناسبات وطنية ينشط فيها الحديث عن حب الوطن ثم تعود أدراجها، ولكن ينبغي أن تنبع من رؤية إستراتيجية تُوضَع الخُطَط البرامجية على أساسها، وتنطلق منها كافة القوالب والأشكال والبرامج من خلال ربط المواطن بواقعه وتحفيز الإنتماء الوطني وتحقيق الإنجازات واستنفار الطاقات وإلقاء الضوء على الكفاءات الوطنية ورعاية الموهوبين وتنمية التفكير المبدع في كافة المجالات وتقديم النموذج والقدوة والمسؤولية والمهنية في التعاطي مع القضايا عبر تجارب واقعية، فضلاً عن تعريف الأجيال بتاريخ وطنهم والوفاء لوحدته وما بذل من أجله.
كل ذلك مع أهمية الإنفتاح على كافة الثقافات، والإستفادة من علوم العصر ومعارفه الحضارية المتطورة، والتعامل مع الغير على قدم المساواة، أخذاً وعطاءاً، عندئذ يكون إعلامنا بحق قد قام بالدور المأمول في تعزيز الهوية الوطنية السودانية والحفاظ على ثوابتها وتماسكها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق