رأي

من أعلي المنصة ياسر الفادني أسراب الحسان.. قصيدة تمشي على أجنحة الموسيقى

من أعلي المنصة

ياسر الفادني

أسراب الحسان.. قصيدة تمشي على أجنحة الموسيقى

تجيء (أسراب الحسان) للشاعر حسن عوض أبو العلا كواحدة من التجارب الشعرية الغنائية التي تحمل خصوصيتها بين روائع الغناء السوداني، القصيدة لم تولد من مجرد خيال، بل من واقع مأساوي عاشه الشاعر وهو مقعد على كرسي لا يقوى على الحركة، يرقب الحياة من خلف عجزه، ويرى الأمل متجسداً في خطوات الطالبات المارات أمام منزله بأم درمان، كأسراب طيور لا تتوقف عن التحليق، هنا يكمن سر الإبداع: تحويل مشهد بسيط من الحياة اليومية إلى لوحة شعرية متدفقة بالحياة والجمال

الموسيقى في النص تبدأ من داخل الكلمات نفسها، أي سرب يتهادى…! بين أفياء الظلال” جملة تحمل إيقاعاً داخلياً ناعماً، يشي بخفة الخطى ونعومة المشهد، إستخدام الشاعر للألفاظ الموحية بالحركة (يتثنى)، (يتهادى)، (يتدلّى) يخلق موسيقى داخلية تسبق اللحن وتدعوه للوجود، ثم تأتي الصور المتلاحقة مثل (عنقود تدلى) و(طيور حالمات) و(ابتسام في سرور)! لتبني تنويعاً موسيقياً داخل القصيدة نفسها، وكأن النص قد كتب أصلاً لينشد لا ليقرأ فقط

أما اللحن الذي صاغه سيد خليفة فقد جاء إمتداداً لهذه الروح ، إعتمد على جمل موسيقية قصيرة ومتتابعة، تتهادى مثل مشية الأسراب التي وصفها الشاعر، دون قفزات حادة أو تعقيد مبالغ فيه، البنية اللحنية حملت قدراً من البهجة والصفاء، متوازنة بين الإيقاع الهادئ والروح الغنائية الرشيقة، وهو ما جعل الأغنية تترسخ في ذاكرة المستمعين كأغنية ذات طابع رقيق وعاطفة متدفقة، سيد خليفة تعامل مع النص كلوحة مرسومة بألوان شفافة، فلم يزد عليها زخرفة موسيقية زائدة، بل ترك للحن أن يتماهى مع رقة الصورة الشعرية

أما الأداء الصوتي لسيد خليفة، فهو بدوره تجربة مميزة، صوته العذب الرنان حمل القصيدة بصدق، وأعطاها الروح التي تحتاجها لتكتمل، لم يغنها كمن يؤدي نصاً غنائياً عادياً، بل كمترجم للغة شاعر مقعد يطل من نافذته على الحياة، صوته صعد ونزل في مواضع متقنة، يرفع عند لحظة الدهشة والانبهار، ويخفض عند لحظة الشجن والتوجع، فكانت النتيجة أداءً صادقاً تذوب فيه الكلمات في اللحن، ويذوب اللحن في الصوت، ليصبح العمل برمته قطعة فنية مكتملة الأركان

إني من منصتي…. أستمع ….لأسراب الحسان .. التي لم تكن مجرد أغنية، بل كانت شهادة على قدرة الفن أن يتجاوز قسوة الحياة ويخلق من مأساة الجسد فرح الروح، هي قصيدة عن الأمل في قلب الألم، عن الجمال الذي يظل ممكناً حتى في أزمنة العجز، وعن صوت غنائي إستطاع أن يرفع نصاً شعرياً شخصياً إلى مقام الجماعية، حيث يغنيه الناس ويتوارثونه، دون أن يعرف كثير منهم أن وراءه شاباً لم يتجاوز الحادية والعشرين، عاش مقعداً ورحل مبكراً، لكنه ترك إرثاً من الضوء في أغنية ما زالت تحلق كالأسراب في فضاء الذاكرة .

مقالات ذات صلة

إغلاق