رأي

السودان بين الهدنة الرباعية المسمومة والانتصار الأكبر للسيادة الوطنية عميد ركن محمد المرتضى الشيخ عبدالله

السودان بين الهدنة الرباعية المسمومة والانتصار الأكبر للسيادة الوطنية

عميد ركن محمد المرتضى الشيخ عبدالله
أكاديميـــة نميــــــــري العسكريــــة العليا

يشهد السودان في هذه المرحلة المفصلية واحدة من أعقد لحظاته التاريخية، حيث تتقاطع التحديات الداخلية مع الضغوط الخارجية في سياق إقليمي ودولي شديد السيولة، في خضم هذا المشهد، تبرز ما يُعرف بـ (هدنة الرباعية) بوصفها مبادرة خارجية ذات أبعاد سياسية وأمنية وإنسانية معلنة، لكنها في جوهرها تُثير تساؤلات عديدة حول توقيتها وأهدافها الحقيقية، فالمبادرة تأتي في لحظة تقدم ميداني وتماسك شعبي داخلي مزهل، ما يجعلها تبدو أقرب إلى محاولة لإعادة توزيع الأوراق أكثر من كونها استجابة صادقة للاحتياجات الإنسانية.

أولاً: هدنة الرباعية.. بين المعلن والمضمر
من الناحية النظرية، تقدم المبادرة نفسها كخيار إنساني يستهدف إيقاف نزيف الدم وتسهيل وصول المساعدات، لكن القراءة السياسية تكشف عن مقاصد أخرى، من أبرزها:
• إعادة تموضع الأطراف الخارجية: تسعى القوى الغربية والإقليمية إلى تثبيت نفوذها في مسار الأزمة السودانية، حتى لا يُحسم الصراع بمعزل عنها.
• كبح التقدم العسكري للجيش والقوات المساندة له: التوقيت يتزامن غالباً مع لحظات تفوق ميداني للقوات المسلحة، ما يجعل أي هدنة فرصة لإعادة تنظيم المتمردين وإطالة أمد الصراع.
• إدارة الصراع لا حله: كثير من هذه المبادرات لا تهدف لإنهاء الأزمة، بل لإبقائها في حالة سيولة تُمكّن القوى الكبرى من التدخل عند الحاجة.
التوقيت المسموم.. أبعاده ودلالاته
تطرح المقاصد المذكورة آنفاً وفي هذا التوقيت إشكالية التوقيت المسموم، إذ يتحول (وقف إطلاق النار) من وسيلة لحماية المدنيين إلى أداة سياسية لحرمان السودان من استثمار لحظة التفوق الداخلي. مصطلح التوقيت المسموم لا يُقصد به قطعاً اختيار لحظة عابرة، بل هو توصيف دقيق لاستراتيجية خارجية متكررة تقوم على التدخل في لحظة التحول لصالح الداخل، بغية تعطيله أو تحويل مساره والأمثلة كثيرة على مر تاريخ السودان الحديث ، فالهدنة تُطرح عادة عندما يقترب الجيش من تحقيق إنجاز نوعي على الأرض، أو حين يبدأ المجتمع في تجاوز آثار الحرب بفضل تماسكه، فتأتي المبادرة لتقطع سلسلة الإنجازات وتمنح المتمردين فرصة لإعادة التموضع. وعمق (السمية) في هذا التوقيت يكمن في أنه لا يضرب الإرادة العسكرية وحدها، بل يستهدف أيضاً المعنويات الجمعية للشعب، إذ يُراد له أن يشعر بأن أي تقدم سيتحول في لحظة إلى تسوية أو مساومة، وأن التضحيات قد تُهدر على طاولة التفاوض، هنا، يصبح التوقيت نفسه أداة حرب ناعمة، لا تقل خطورة عن العمليات العسكرية، لأنه يزرع الشك في جدوى الصمود، ويغري البعض بقبول حلول ناقصة تُفضي إلى إطالة الأزمة لا حلها.

ثانياً: الشعب والجيش.. معادلة الصمود الوطني

التحليل الاجتماعي والسياسي للأزمة السودانية يُظهر أن الركيزة الأساسية التي حالت دون انهيار الدولة بالكامل تكمن في تماسك الشعب والجيش،هذه العلاقة لم تتشكل اعتباطاً، بل تأسست على جملة من الحقائق:
• الجيش كرمز سيادة: في ظل تفكك المؤسسات الأخرى بفعل الحرب، ظل الجيش المؤسسة الأكثر صلابة، ما عزز صورته كحامٍ للوطن.
• المجتمع كمخزون دعم: رغم قسوة الظروف الاقتصادية والإنسانية، استمر المواطن العادي في دعم المجهود الوطني، سواء بالمساندة المعنوية أو اللوجستية.
• الوعي الجمعي: تَولَّد لدى غالبية الشعب إدراك بأن الهزيمة تعني تفتيت الدولة ودخولها في دوامة الوصاية الأجنبية، وهو ما عزز خيار الصمود المشترك.

إن هذه المعادلة (جيش واحد ..شعب واحد ) جعلت من أي محاولة خارجية للضغط أو الالتفاف على مسار الأزمة أمراً شديد الصعوبة، لأنها تصطدم بإرادة داخلية متماسكة.

ثالثاً: الانتصار الأكبر.. من الميدان إلى مشروع الدولة

إذا كان الانتصار العسكري يُمثل هدفاً عاجلاً، فإن الانتصار الأكبر يكمن في ترجمة التضحيات إلى مشروع وطني مستقبلي، هذا يتطلب:
• إعادة بناء الدولة على أسس أكثر صلابة وعدلاً، بعيداً عن دوائر الفساد والتهميش التي ساهمت في هشاشة الوضع السابق.
• تطوير الإعلام الوطني ليكون أداة للتنوير والتماسك، لا مجرد ناقل للأحداث، بما يعزز الوعي الجمعي ويحمي المجتمع من الحملات الموجهة.
• تنمية اقتصادية منتجة تقلل من تبعية السودان للمعونات الخارجية، وتستثمر في موارده الزراعية والمعدنية والبشرية.
• إرساء مشروع وطني جامع يُنهي الانقسامات الجهوية والسياسية، ويجعل من الانتصار العسكري رافعة لإصلاح سياسي شامل.
بهذا المعنى، فإن المعركة الحقيقية لا تنتهي عند حدود الحسم الميداني، وإنما تبدأ بعدها في بناء سودان جديد، قادر على الصمود أمام التحديات الخارجية، ومحصن من الاختراق الداخلي.

رابعاً: قراءة في المآلات المستقبلية

المتابعة الدقيقة لمسار الأحداث تُشير إلى أن السودان يقف أمام مفترق طرق:
• المسار الأول: الرضوخ لمعادلة الخارج عبر (هدن) متكررة تُطيل أمد الأزمة، وتُعيد إنتاجها بأشكال جديدة.
• المسار الثاني: الاستمرار في التعويل على تماسك الداخل (جيشاً وشعباً) وصولاً إلى الحسم الكامل ، ثم الانطلاق نحو مشروع وطني جامع.

ويبدو أن المؤشرات الحالية تميل إلى الخيار الثاني، استناداً إلى صلابة الجبهة الداخلية، واستيعاب الشعب لخطورة الاستسلام للابتزاز الدولي. يمكن القول إن (هدنة الرباعية) ليست سوى فصل من فصول معركة أكبر، تُراد من خلالها إعادة صياغة المشهد السوداني بما يخدم مصالح الخارج، غير أن إرادة الشعب والجيش، وقد اجتمعت على خيار الصمود، تجعل من هذه المحاولات مجرد مناورات عابرة، أما الانتصار الحقيقي والأكبر سيكون في القدرة على تحويل التضحيات إلى مشروع وطني متماسك، يضع السودان على طريق الاستقرار والنهضة، وفي نهاية المطاف، أثبت التاريخ أن الشعوب التي ترفض الانحناء، مهما طال ليلها، تخرج أقوى وأكثر رسوخاً، وهذا ما ينتظر السودان إذا ما أحسن إدارة لحظة النصر المرتقب بإذن الله تعالى.

مقالات ذات صلة

إغلاق