Uncategorized
سقوط دعاوى (الإنسانية الكذوب) في الفاشر: هبة ضمير أم عرض سياسيزائف؟ عميد ركن محمد المرتضى الشيخ عبد الله أكاديميـــة نميــــــــري العسكريــــة العليا

سقوط دعاوى (الإنسانية الكذوب) في الفاشر: هبة ضمير أم عرض سياسيزائف؟
عميد ركن محمد المرتضى الشيخ عبد الله
أكاديميـــة نميــــــــري العسكريــــة العليا
في قلب مدينة الفاشر، العاصمة التاريخية لدارفور، تتكشف اليوم فصول المأساة الأشدّ فظاعة في القرن الإفريقي الحديث، بينما يتواصل صمت العالم في مشهد يُسقط آخر الأقنعة عن دعاوى (الإنسانية) الزائفة، فمنذ أكثر من عامين، صمدت المدينة في وجه الحصار والتجويع والقصف المتواصل، مقاومةً ببسالةٍ نادرة رغبة المليشيات في إخضاعها، لكن المأساة بلغت ذروتها حين تحوّلت طرق النجاة إلى مصائد موت في مؤشر فاضح على فشل منظومات الحماية الدولية ، فسقط الآلاف من المدنيين العزّل برصاص الغدر، وهم يحاولون الفرار من جحيم الحرب في أفظع أفلام القتل الممنهج والابادة الجماعية والانتهاكات واسعة والتي وثقتها وكالات أنباء دولية ، تقارير أممية ومنظمات حقوقية وشهادات نازحين بعد سيطرة مليشيات الدعم السريع الإرهابية على الفاشر .
المدينة المحاصَرة… والضمير الغائب
منذ الأسابيع الأولى للحصار، ارتسمت ملامح الكارثة الإنسانية في الفاشر بوضوح: نقص حاد في الغذاء والدواء، تدهور الخدمات الصحية، وموجات نزوح غير مسبوقة، ومع ذلك، لم يتحرك المجتمع الدولي إلا عبر بيانات (قلق متكررة)، ونداءات هدنة بلا آليات تنفيذ، وكأنّ دماء الأبرياء تصلهم عبر موجات الراديو لا على أرض الواقع.
الرباعية الدولية ومن خلفها المجتمع الدولي اللا إنساني التي تتباهى بالحديث عن حقوق الإنسان أظهرت عجزها الكامل عن حماية الإنسان ذاته، واكتفت بالتحذير اللفظي وإعادة تدوير الشعارات ذاتها: (ضرورة وقف القتال فوراً، وإتاحة الممرات الإنسانية) التي لم تمنع المجازر التي التهمت الأحياء المدنية في وضح النهار فباتت شعارًا يُستخدم لتجميل العجز الأخلاقي والسياسي.
إنسانية الشعارات… وسقوط الأخلاق السياسية
ما حدث في الفاشر ومن قبلها مدينة الجمال (بارا) بل ومدن ومناطق عديدة دنستها أيادي مليشيا الدعم السريع الإرهابية الآثمة ليس مجرد تقاعسٍ أممي، بل سقوطٌ أخلاقي مدوٍّ لنسقٍ عالمي يبيع (الإنسانية) كمنتجٍ إعلامي في المؤتمرات والقمم، بينما يغضّ الطرف عن المذابح حين لا تخدم مصالحه السياسية، فكيف يمكن لمنظماتٍ تتغنّى بحقوق الإنسان أن تصمت أمام تصفية آلاف الأبرياء؟ كيف تُرفع شعارات (العدالة الدولية) في العواصم الكبرى، بينما تُدفن الضحايا في صمت داخل مقابر جماعية؟ هذا التناقض الفجّ هو ما يجعل (الإنسانية) التي تتحدث بها الدول الكبرى (إنسانية انتقائية كذوب) تُستخدم حين تخدم أجندة النفوذ، وتُسحب حين تكون الضحايا من شعوب العالم الثالث الفقير.
الفاشر… درسٌ في الصمود لا في الموت
رغم قسوة المشهد، تظل الفاشر عنواناً للصمود، ورمزاً لإرادة الحياة في وجه آلة الدمار، لم تنكسر المدينة، بل أثبتت أنّ الشعوب قادرة على الثبات حين تخذلها المنظمات، وأنّ الكرامة الوطنية قد تكون آخر خطوط الدفاع حين تسقط القوانين الدولية، ففي كل شارع من شوارع الفاشر حكاية، وفي كل منزلٍ مأساة، لكنها مأساة لا تُروى من باب البكاء، بل من باب التحدي والإصرار على البقاء، الفاشر لم تستسلم رغم أنين الجوع، ولم ترفع الراية البيضاء رغم خذلان العالم، الفاشر اليوم ليست فقط قصة مأساة، بل شهادة على نفاق النظام الدولي الذي يتحدث عن حقوق الإنسان بينما يتجاهل مأساته، إنها المرآة التي تعكس عجز العالم عن أن يكون إنسانياً بالفعل، لا بالشعارات.
المجتمع الدولي… شريك بالصمت
حين تُرتكب الجرائم الجماعية وتُستباح المدن تحت مرأى العالم، يصبح الصمت جريمة، ويغدو المتفرج شريكاً في القتل، لم يعد الصراع في السودان قضية داخلية فحسب، بل اختباراً للقيم العالمية التي لطالما تباهت بها المؤسسات الدولية وما قصة (غزة) ببعيد، فإما أن تُترجم (الإنسانية) إلى فعلٍ حقيقي يُنقذ الأرواح، أو فلتسقط تلك الكلمة من قاموس السياسة إلى الأبد.
كلمة أخيرة: الإنسانية ليست بيانًا… بل موقف
إن ما يجري في الفاشر ليس مجرد معركة عسكرية، بل معركة ضميرٍ عالميٍّ على المحك،
الذين يطالبون اليوم (بـهدنة إنسانية) تأخرت سنتين، يتحدثون وكأنّ الوقت لا يُقاس بعدد الأرواح التي أُزهقت، وكأنّ الفاشر ليست مدينة سودانية بل مجرد عنوانٍ في نشرة الأخبار، لكنّ التاريخ لن يرحم أحداً لا من أطلق الرصاص على المواطنين العزل ولا من أرسل الدعم والمدد العسكري بطائراته ومرتزقته المأجورة يجوب العالم ليزرع الموت الزؤام في البيوت الآمنة المطمئنة، ولا من لزم الصمت.
الفاشر ستبقى شاهداً على أن الإنسانية ليست بيانات، بل مواقف وأنّ السكوت عن الجريمة أخطر من ارتكابها، هي مدينةٌ دفعت الثمن وحدها، لكنها رفعت صوتها عاليًا لتقول للعالم:(من لا يحمي الإنسان لا يحق له أن يتحدث باسمه)، وهي ليست مأساةً سودانية فحسب، بل امتحانٌ عالمي للضمير الإنساني، وحتى يُحاسَب الجناة، وتتحرك الإرادة الدولية من دائرة الكلام إلى دائرة الفعل، سيبقى الدم السوداني شاهدًا على سقوط منظومةٍ عالمية فقدت وجهها الإنساني القميء.



