Uncategorized
من أعلى المنصة ياسر الفادني حَيَاتُك كلُهَا قيمُُ … تُتَوجُ قمةََ شَمَّاء !

من أعلى المنصة
ياسر الفادني
حَيَاتُك كلُهَا قيمُُ … تُتَوجُ قمةََ شَمَّاء !
أغنية (عزيزٌ أنت يا وطني) تعد واحدة من الأعمال الغنائية التي تترجم صدق الإنتماء للوطن وعمق العاطفة الوطنية التي تميز وجدان الشعب السوداني، هي ليست مجرد عمل فني، بل هي لوحة وجدانية تمزج بين الشعر واللحن والأداء لتكوّن نشيداً خالداً من أناشيد الوعي والانتماء والكرامة، كتب نبضها…. حسين أونسة، وهو شاعر عرف بصفاء لغته وصدق تعبيره عن العاطفة الوطنية، وأداها بصوتٍ عميق الإحساس الفنان مجذوب أونسة الذي منحها روحاً متفردة جعلتها تنبض بالحياة في ذاكرة السودانيين
من حيث الكلمات، تمثل الأغنية نصاً شعرياً مكثفاً يرتاح على لغة راقية بسيطة في مفرداتها لكنها عالية في معناها ووقعها الوجداني ، يفتتح الشاعر قصيدته بنداءٍ صادق عزيزٌ أنت يا وطني ، وهو نداء يحمل في طياته مزيجاً من الحب والفخر والوفاء، يواجه الشاعر المحن والقسوة، لكنه في الوقت نفسه يؤكد أن هذا الوطن باقٍ في القلب مهما اشتدت الصعاب، فيقول (برغم قساوة المحن) (برغم صعوبة المشوار)، (ورغم ضراوة التيار) ، وهي ثلاثية تعكس صورة التحدي والصمود في وجه العواصف، إن توظيف التكرار هنا يمنح الإيقاع الداخلي للنص طاقةً تعبيرية، ويعمق الإحساس بالثبات والإصرار، فيما يظهر البعد الرمزي في قوله سنعمل نحن يا وطني لنعبر حاجز الزمن، الذي يحمل دلالة الاستمرارية والتجدد، وكأن الوطن مشروع لا يتوقف عند حدود الجغرافيا بل يمتد عبر الأجيال
أما من حيث التكوين الجمالي، فإن النص يتكئ على صور شعرية مستمدة من الواقع السوداني ومحمّلة بالرموز الوطنية، مثل( النيل) الذي يتحول إلى رمز للخلود والعطاء والحياة، إذ يقول : فيك النيل الذي أرسى لدنيا المجد أوتادا، هذا الاستخدام الرمزي يربط بين التاريخ والجغرافيا، بين الأرض والإنسان، وبين النيل والحضارة التي نشأت على ضفافه، فيستحضر في ذهن المستمع العمق الحضاري للسودان، كما أن الشاعر يوازن بين الصور الكبرى مثل حضارات به كانت لنور الحق ميلادا وبين التفاصيل الإنسانية في قوله تراعي قيمة الإنسان، وتحمي عزة الأوطان، ليقدم مفهوماً شاملاً للوطن، لا بوصفه أرضاً فقط، بل كياناً أخلاقياً وإنسانياً
من الناحية اللحنية، جاءت الأغنية على نسق من الألحان الهادئة ذات البناء التصاعدي، يبدأ بتمهّل وانسياب يعبّر عن دفء الانتماء، ثم يتصاعد تدريجياً في مقاطع وفينا عزمهم يصحو وفيا وطني إذا ناديت يا وطني، ليصل إلى ذروة عاطفية عالية تثير مشاعر الاعتزاز والحماسة، اللحن هنا يعكس مضمون النص، فهو لا يكتفي بمرافقة الكلمات، بل يتناغم معها في موجات من التأمل والعزم والعشق، تمتاز الجمل الموسيقية بطابعها السوداني الأصيل، حيث تظهر فيها تأثيرات السلم الخماسي الذي يمنحها خصوصية محلية تميّز الغناء الوطني السوداني عن غيره، وتجعله قريباً من الوجدان الشعبي
أما الأداء الصوتي لمجذوب أونسة، فهو أحد أسرار خلود هذه الأغنية، صوته يحمل مزيجاً نادراً من الدفء والصلابة، ومن الحنين والعنفوان، لقد تعامل مع النص بروح المخلص لا بروح المؤدي، فخرج صوته كأنه ينادي من أعماق القلب، كان إحساسه بكل كلمة واضحاً في نبراته، خصوصاً في المقاطع التي تتحدث عن الشهداء والعزم والتضحية، حيث يعلو صوته بنغمة الإيمان والثبات، ثم يهدأ في ختام الأغنية بنغمة أقرب إلى الدعاء والوعد بالوفاء للوطن
في وجدان السودانيين، تحتل عزيزٌ أنت يا وطني مكانة خاصة، فهي ليست أغنية تُستمع لمجرد المتعة، بل تُتلى كما تُتلى الأناشيد الوطنية الكبرى، يستعيدها الناس في لحظات الشدة، وفي الاحتفالات الوطنية، وفي لحظات التأمل في تاريخ البلاد ، هي أغنية تعبّر عن هوية السودان، عن صبره وعزته وشموخه رغم الجراح، وتمنح المستمع شعوراً بأن الوطن هو القيمة العليا التي لا يمكن المساومة عليها
إنها واحدة من تلك الأعمال التي تجاوزت حدود الفن لتصبح جزءاً من الذاكرة الجمعية، أغنية تشبه السودان في صفائه، وفي صموده أمام العواصف، وفي نيله الذي لا يجف، لتبقى عزيزٌ أنت يا وطني شهادة حبّ خالدة بين الشاعر والوطن، بين الفنان والناس، وبين الماضي الذي ضحّى، والمستقبل الذي ما زال ينتظر.


