Uncategorized
من أعلى المنصة ياسر الفادني ياما نحلم نحكي ليك عن المسافة …ونشتهيك !

من أعلى المنصة
ياسر الفادني
ياما نحلم نحكي ليك عن المسافة …ونشتهيك !
تتشكل أغنية (في عيونك) من تضافرٍ نادرٍ بين شاعرٍ يكتب بروحٍ تقطر شوقًا وخيالًا ومغنٍّ يلحن الكلمة ويؤديها كما لو أنها خرجت للتوّ من نبض قلبه، أبو ذر الغفاري، بطبعه الحالم ووعيه الحادّ بحساسية الروح، يصوغ هنا نصًا يتجاوز حدود القصيدة الغنائية التقليدية إلى فضاءٍ آخر، فضاءٍ يتبادل فيه الشوق أشكاله المتعددة: موجًا يتهادى، زفّة خريف، سفنًا ترسو على ضفاف العيون، وصباحًا يتمدد كلما تحرك النبض ، في كل سطر إحساس، وفي كل صورة بديع، وفي كل عبارة محاولة لتجسيد العشق في هيئة مرئية، كأن العيون هنا ليست نافذة فقط، بل وطنٌ كامل تتجاور فيه المواسم، وتتعاقب الأزمنة، ويتحوّل الشوق إلى حركة حياة
تنبض القصيدة بلغة تنتمي إلى الشعر السوداني الحديث لكنها مشبعة بطابع الغفاري الخاص، ذلك المزج بين البساطة والعمق، بين اليومية والأسطوري، بين الحنين والزفرة الثقيلة التي تشبه رائحة الأرض بعد المطر، فالشاعر يميل إلى خلق صورٍ حية، يتحرك فيها المعنى، لا يبقى ثابتًا: (ريحة الموج البنحلم فيهو بي جية النوارس) ، عبارةٌ واحدة تكفي لتشييد عالمٍ كامل من الانتظار والأمل، إنه نصّ يحاول الإمساك بما لا يُمسك: بالشوق حين يصبح ضجةً وصوتًا وريحًا وتحوّلاً داخليًا لا يهدأ، ومن خلال التكرار المقصود لعبارة (في عيونك) يظلّ النص يعود دائمًا إلى مركزه العاطفي، إلى مكان الارتكاز الذي تُبنى حوله كل هذه الصور
وحين ينتقل النص من الشاعر إلى الملحن والمغني مصطفى سيد أحمد، يتغير سياقه ويأخذ شكله النهائي، مصطفى بما يحمله من تجربة إنسانية حساسة وصوتٍ يخرج من أعماق الوجع، لم يلحن القصيدة فحسب، بل استنطقها، جعل من موسيقاها امتدادًا طبيعيًا لتفاصيلها، فاختار لها لحنًا يهبها المدى الذي تستحقّه، لحنًا يزحف ببطء الشجن، ويتصاعد كلما أرادت المفردة أن تخرج من حدود الكلام إلى مساحات الغناء الواسعة موسيقى مصطفى لا تزاحم النص، بل تفسح له المجال ليتمدد، لتتوالد صوره على مهل، لتتلألأ عباراته كما لو أنها تخرج من ظلال الروح
أما الأداء، فهو ذروة هذا العمل، أداء مصطفى سيد أحمد في (في عيونك) كان دائمًا أكثر من مجرد غناء، كان اعترافًا، كان غناءً يمسك بتلابيب الإحساس، ويعطي كل كلمة وزنها العاطفي، في صوته شيءٌ من التعب، من الحكمة، من التجربة التي مرت بالمنافي والآلام والمحبّات، ولذلك كان طبيعيًا أن يتماهى المستمع مع الأغنية، لأنها جاءت من مكان صادق، مصطفى يؤدي القصيدة كأنه عاش كل تفاصيلها، وكأن العيون التي يتحدث عنها الشاعر رآها هو أيضًا، وعبَر إليها وفق نبرة صوتٍ لا يمكن لأحد غيره أن يبلغها
هذه الأغنية، في الوجدان السوداني، لم تعد مجرد عمل موسيقي، بل أصبحت ركنًا من الذاكرة ، يسمعها الناس في لحظات الانكسار، في الانتظار الطويل، في ليالي السفر، في مقدمة الحب ونهايته. تشكّل الأغنية حالة وجدانية تتجاوز الطرب إلى ما يشبه الطقس الروحي ، تُعيد المستمع إلى ذاته، إلى علاقته بالشوق، بطفولته، بذكرياته، بأحبابٍ مرّوا أو ما زالوا ، في المجتمع السوداني الذي يسكنه الحنين وتوسمه موسيقى مصطفى بعمقها، تصبح في عيونك أغنية شخصية لكل فرد، رغم أنها أغنية واحدة. إنها عملٌ يجد فيه المستمع سودانيته، لغته العاطفية، وحنينه، ويحس معها بأن صوت مصطفى يتكلم نيابة عنه، وبأن كلمات الغفاري تعبر عن أسراره الداخلية الأكثر خفاءً.
لهذا كله، تبقى (في عيونك) واحدة من أعذب الأغاني السودانية وأكثرها رسوخًا؛ قصيدةٌ تفيض بشعرية نقية، لحنٌ وُلد من القلب، وأداءٌ إنساني يصعب أن يتكرر، إنها ليست أغنية تُسمع فقط، بل تُعاش.



