Uncategorized

من أعلي المنصة ياسر الفادني ياني يانيل…. ليكَ راجع !

من أعلي المنصة

ياسر الفادني

ياني يانيل…. ليكَ راجع !

في (وصية مهاجر) تتجسد واحدة من أنضر اللوحات الوجدانية في الغناء السوداني، حيث تتداخل بلاغة الشعر مع دفء الصوت وعمق اللحن لتصنع عملاً يفيض حنيناً ومدّاً عاطفياً لا ينقطع، نص عبد الرحمن بكراوي هنا ليس مجرد كلمات، بل هو مشهد كامل يكتبه المهاجر لحظة وقوفه على عتبة الرحيل، يضع فيه قلبه على الورق ويحمّله وصايا تتقاطع فيها الأوطان مع الأم، والديار مع الأطفال، والمحبوبة مع النيل ، بلاغة النص تنبع من بساطته أولاً، ومن صدقه ثانياً، فالشاعر لا يلجأ إلى التزويق اللغوي بقدر ما يستثمر القدرة العفوية للكلمة السودانية الأصيلة، يقول: (جيت أوادعك يا قماري…) وفي النداء نفسه دفء لا يُصطنع، يستعير «القمر» رمزاً للحبيبة والوطن في آن، ليجعل منها حارسة للذكريات ومنسابة بين شدّ الرحيل ووجع الفراق، ويبلغ النص ذروته العاطفية حين يطلب منها أن تطُل على الديار، والأم، والأطفال، والأصدقاء، وحتى (الجميلة الفي عيونها إشراقات حواري)!، وكأن الشاعر يمنح الحبيبة دوراً يتجاوز الحب إلى الحراسة الروحية، إنها المكلّفة بحفظ ما تبقّى من قلبه في الوطن، هذا الأسلوب القائم على الإيحاء يضفي على النص سعةً تتجاوز حدود القصيدة لتلامس معنى الانتماء نفسه

وتتجلى بلاغة بكراوي أيضاً في قدرته على محاورة العناصر: الغيم، السحاب، النيل، الجرف، الطير ،كلها تتحول إلى كائنات يمكن مخاطبتها، وكأن الكون كله متورط في حزن الشاعر. (قولي للنيل كلميه…. يسقي بستاني وخضاري) ليست جملة عادية؛ إنها تعبير عن علاقة وجودية بين الإنسان والأرض، فيها رجاء وفيها خوف من الانقطاع، مع كل بيت تتضح صورة مهاجر لم يختر الرحيل، بل سُحب منه قسراً: (الرحيل ما باختياري)، هنا يتحول النص إلى وثيقة عاطفية صافية، تقاوم القسوة بالحنين، وتنتصر للإنسان البسيط الذي يحلم لوطن (يقوى ويبقى زي نجم ضواي وساري)

أما من الناحية الموسيقية، فإن لحن مجذوب أونسة جاء محمولاً على طبقات من الشجن، يعتمد على بناء بسيط لكنه راسخ، يعكس روح النص ويمنحه اتزاناً عاطفياً عميقاً، اللحن يتكئ على مقام يتيح مساحة واسعة للتموّج الشعوري، حيث يمتزج الإيقاع الهادئ بنبرة متأنية تترك للكلمة أن تأخذ مداها، ويتميّز لحن الأغنية بقدرته على محاكاة حركة الرحيل نفسها: المقدمة الموسيقية أشبه بخطوات بطيئة على تربة الديار، تتصاعد شيئاً فشيئاً حتى تفتح المجال لصوت المغني ليحمل الدراما الداخلية للنص، التحولات اللحنية محسوبة بدقة، لا تنفصل عن البنية الشعرية وترافقها بذكاء، خاصة في المواضع التي يخاطب فيها الشاعر الطبيعة، حيث يأخذ اللحن انسياباً ليّناً يشبه حركة الغيم والنيل والطير، ثم يعود ليتكثف في الجمل التي تعلن قدراً لا يُردّ مثل الرحيل ما باختياري

ويظل صوت مجذوب أونسة أحد أهم عناصر اكتمال هذه التجربة، فهو يمتلك طبقة واثقة، دافئة، ذات قدرة عالية على حمل الحزن دون أن تقع في النواح، والحنين دون أن ينكسر الخطاب الغنائي، أونسة يؤدي الأغنية وكأنه يعيش تفاصيلها، فيلتقط أنفاس النص بتروٍ، ويمنح بعض الكلمات امتداداً زمنياً يسمح بتجسيد الألم من غير إفراط، صوته يشبه حنجرة مهاجر حقيقي، ذلك الصوت الذي لا يصرخ، لكنه يتألم بصمتٍ يسمعه الجميع، ويكمن جمال أدائه في التوازن بين الشجن والقوة، وهو ما يُشعر المستمع بأن الرحيل قاسٍ لكنه ليس هزيمة، وأن الحنين موجع لكنه أيضاً طاقة للبقاء

إني من منصتي أستمع ….حيث أحس…… أن هذا المزج بين بلاغة النص وصدق الصوت وعمق اللحن، تصبح وصية مهاجر أكثر من أغنية ، إنها مرثية حب للوطن، ودفتر وصايا لإنسان يترك خلفه كل شيء إلا أمله بأن يعود يوماً إلى النيل (يشرب ويطفي ناره) ، إنها عمل ينتمي إلى العاطفة السودانية المعروفة ، لأنه يلخص تجربة الهجرة كما يعيشها أبناء البلاد: فراق لا يُراد، وحب لا يموت، ووطن هو في الحقيقة قصيدة لا تنضب.

مقالات ذات صلة

إغلاق