رأي

أنفاسُ القَرِيض

هذا عنوان ديوان شعر للبروفسير اللُّغَويّ الحبر يوسف نور الدائم،الذي فارق دنيانا الفانية هذه في فقد جلل، الأحد الماضي 19 نوفمبر 2023.

صدرَ “أنفاس القريض” بُعيد منتصف التسعينيّات، فاحتفت به الأوساط الأدبيّة، وتناولته الصفحات الثقافيّة في الصُّحُف، وحفظ القصائدَ منه الخطباء في المنابر المسجديّة والثقافية

“أنفاس القريض” فيه أنفاسٌ دائفة، وعاطفةٌ حَرَّى تنقَعُ للصادي غُلَّتَه، وتشفي للمريض عِلَّتَه، وتشُدُّ العزائم الخائرة.

وهذه سطورٌ يسيرة كتبتُها قبل عشرين سنة في جريدة حائطية أسميتها (آداب)، لبعض طلبة الجامعات الوافدين من الصومال، وأريتريا، وتشاد، وجيبوتي، والجزائر، ومصر، واليمن.
وكنت أعمل حينها مشرفا تربويّاً لهم بمساكن الطلبة التي أنشأتها منظمة المستقبل لرعاية الشباب.

يقول الشيخ الحبر :

وكائن حملْتُ النَّفسَ بعد تمنُّعِ //
على لاَحِبٍ جَمِّ الصُّوَى فاتلَأبَّتِ
إذا المرءُ لم يُقلِع عن الشَّرِّ نَفسَه//تَرَدَّت وطاحَت في الجحيمِ و زلَّتِ

هذه أبيات تبدو فيها الحِكمة.. والحكمة تردعُ النفسَ وتكبح جماحها..
وقد جاءت هذه الحكمة واحداةً من مكوّنات الخطاب الشعريّ للشاعر، وهو في قمّة إشراقه الإبداعيّ.

ويأتي “توهُّج اللغة” في أسلوبيّة الشاعر بادِياً قويّاً في اللفظة الشاعرة، وتلاحظ ذلك في عبارة “كائن”..تتأرجح بين التشبيه والتقرير، وهي فاعل من “كان”.. أي مهما كنت ترى!!

كائن تَرى من صامتٍ لك معجَبٍ // زيادتُه أو نقصُه في التكلُّمِ

واللّاحِبُ :الطريق القاصِد، والصُّوَى معالِم الطريق Mile stones،أيْ :طريق طويل فيه معالم كثيرة.
واتلأبّت : استقامت قامتُه وانتصبت، وانجمعت هِمّتُه في الطريق.

وفي المعنى حَملُ النفس ومقاومتها، قال البوصيريّ في بُردتِه المشهورة:

والنّفسُ كالطفل إن تتركه شبَّ على حُبِّ الرّضاع // وإن تَفطمه ينفطمِ

وَخَالِفِ النّفسَ والشَّيطانَ واعصهما // وإنْ هُما محضاكَ النُّصحَ فاتَّهِمِ

ولا تُطِع منهما خصما ولا حَكَماً // فأنتَ تَعرِفُ كيدَ الخَصمِ والحَكَمِ

ومن الحِكمة أن يَقمع المؤمن نفسه ويحكمها.. وقد جاء في هذا المعنى، قال أبوبكر بن دُريْد(ابن دُريد: من نُحاة البصرة وفقائها في العصر العبّاسي، وصاحب قاموس جمهرة علم اللغة) :” كلّ كلمة وعَظَتك وَ زَجَرتك، أو دَعَتكَ إلى مُكرمةٍ، أو نَهتَك عن قبيح، فهي حِكمةٌ وحُكم، ومنه قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم :” إنّ من الشعر حكمة” وفي بعض الرِّوايات” حُكما”.

وقال الإمام النّوويّ :” وقد صفا لنا أنّ الحكمةَ العلمُ المتّصفُ بالأحكام، المشتمل على المعرفة بالله تبارك وتعالى، المصحوب بنفاذ البصيرة، وتهذيب النفس وتحقيق الحقّ والعمل به”.

والحكمةُ بعدُ خلاصة تزكية النفوس بتحليتها بالفضائل وتخليتها من الرذائل… ومنها الحَكَمة تُلجَمُ بها الدابّة، قال الفرزدق :

أبَنِي حَنيفةَ أَحكِمُوا سُفَهاءَكم // إنِّي أخاف عليكُمُو أن أغضبا

(نواصل)

عمود (الذي أراه)

يكتبه الصحافي/ أبوذر أحمد محمّد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق