رأي
سفر القوافي محمد عبدالله يعقوب انجح تمرد في السودان ۔۔ وثورة العبادي التي تجاوزت المائة عام !

سفر القوافي
محمد عبدالله يعقوب
انجح تمرد في السودان ۔۔ وثورة العبادي التي تجاوزت المائة عام !!
التمرد لغة يعني الخروج عن المسار المتعارف عليه في كل شئ ، وفي السودان عرفنا التمرد ونحن ( شفع يفع) فقد وجدنا آباءنا يرتدون (الميري) ويمتشقون البنادق بسلاح المهندسين العريق ويتجهون صوب الجنوب ومنهم من عاد ومنهم من قبر هناك ، وبسبب التمرد رأينا أحزانا يعجز عنها الوصف في ذلك الزمان البعيد ، وعرفنا ان التي يموت عنها زوجها ستلبس الثوب الابيض والفستان الابيض ولاتقرب المكياج او ( المسوح او الريحة ) وتحمل اسم أرملة الشهيد فلان الفلاني ولكن نساء الحي يسمينها ( مرت الشهيد) ولها مكانة خاصة فينا ، وكنا نعتقد ان المتمردين هم صنف آخر من البشر آذانهم طويلة وكذلك أسنانهم والسنتهم كالبقر وعيونهم حمراء تضئ ليلا ، وكنا نسعد عندما يعود آباءنا بالسلامة من الجنوب ويحكون لأمهاتنا شيئا من بطولاتهم ومعاركهم مع المتمردين رغم أننا والجنوبيين أبناء وطن واحد وعرق واحد لكن الجهل كان سيد الموقف ، فنخرج في اليوم التالي ونصنع البنادق من الخشب و(برنيطة) من الكرتون وكل واحد منا يحمل الرتبة التى يحملها والده ، الا الشلكاوي التاج إبن عمنا البتجاويش دوكة فرج فقد كان يكبرنا بعامين وقرر في تلك السن ان يكون زعيما للمتمردين رغم صغر رتبة والده لأسبابه الخاصة ( عرقا ) ، فإنضم اليه عدد منا لأن ، كما أن والدته كانت تجيد صنع ( الكفتة) التي لاتقاوم ، فتبعه كل ( الإكيلة) وبقينا نحن في جيش النميري – هكذا كنا نسمي قواتنا الصغيرة – فيما كان التاج يسمي جيشه انانيا 2 في محاكاة مطابقة للواقع ، ولكن الرئيس نميري سريعا ما أفاقنا من هذا الحلم بتوقيعه لإتفاقية السلام الناجحة وأصبح ( تلاتة مارس عيد .. يوم وحدة السودان ) وانفض السامر ، ليعيد الراحل الدكتور جون قرنق ذات السيناريو بعد تمرد الكتيبة 105 وانشقاقها عن الجيش بقيادة الضابط كاربينو كوانين في العام 1983 م عقب اعلان الدولة العمل بالشريعة الإسلامية بدلا عن القوانين الوضعية في البلاد ، ومن ثم انضم اليه العقيد جون قرنق الذي هرب من فرع البحوث العسكرية ، أحد أفرع القيادة العامة لقوات الشعب المسلحة ليقاتل الجيش الذي خرج منه لعشرين عاما أو تزيد ومن ثم يأتي السلام ومن بعده الانفصال ، وحتى بزوغ شمس ثورة ديسمبر كان التمرد ماثلا ضد السلطة الحاكمة في البلاد عبر حركات دارفور والحركة الشعبية بالنيل الازرق وجنوب كردفان ، مع وجود تمرد ممنهج بالداخل من أحزاب المعارضة كالشيوعي والبعث والسوداني والامة ، والإتحادي الديمقراطي وقوده الشباب .
ومن ثم جاء التمرد الأكبر الذي قاده ويقوده آل دقلو حتى يومنا هذا ، وجعل كل ارجاء بلادنا خرابا ومات الآلاف من الشيوخ والنساء والأطفال وبالطبع مئات العسكريين في الجيش والمشتركة والأمن والشرطة والمستنفرين بالمقابل قبر مئات الآلاف من متمردي الدعم السريع في ( حيشان ) بيوت المواطنين والشوارع والمقابر ومنهم من آكلت جثثهم الكلاب والقطط ۔
ولكن هناك تمرد من نوع آخر حقق ثورة في سماء السودان منذ أمد بعيد ، وادواته الاوركسترا والشعر والخروج عن المألوف إجتماعيا ويأتي عبر صغار المغنيين الذين يرسمون الدهشة كل صباح في وجوه أهل السودان بغريب اللفظ واللحن والاداء ، وبما أن نتائجه ليست آنية فإن المتعايشين معه يعتبرونه ( شقاوة عيال ) وما دروا انه قد يصبح قاعدة صلبة لفن جديد سيسود البلاد تماما كما يفعل ( ناظر محطة القطار) بالتحويلة أو الناظر ترك ناظر عموم قبائل البنا الآن .. فبعد عشر سنوات سيصبح ما نعرفه من موسيقى وغناء اليوم المستمد من إرث الرواد ، والمشابه لما كان يؤديه الطنبارة بالنسبة لنا ، سيصبح في عداد الآثار المنقرضة ، ففي بداية القرن الثامن عشر تمرد الشاعر ابراهيم العبادي ليكتب أولى الاغنيات المتعارف عليها في العام 1919 بحسب الفنان الراحل على مصطفى الشهير بالدكشنري ، أو في بداية العشرينات بحسب الاستاذ عوض بابكر حامل لواء الحقيبة في السودان ، ليكتب العبادي ( ببكي وبنوح وبصيح ) ويلحنها ويتغنى بها عميد الفن السوداني الحاج محمد سرور لتصبح لبنة لنوع جديد من الغناء الممنهج إستمر الى يومنا هذا ، اذن هذا هو التمرد الناجح والوحيد في عبر تاريخ السودان منذ عهد جدنا الأول بعانخي وحتى يومنا هذا ، وببكي وبنوح وبصيح للشوفتن بتريح !!
خروج أخير
مازال الجنجويد يحلمون بحكم السودان على اختلاف أعراقه ۔۔ فهذا لبس تمردا بل جنونا يصعب علاجه الا بالقرنوف ۔