رأي
سفر القوافي محمد عبد الله يعقوب صالون فوز ۔۔ أشهر الصالونات الأدبية بأم درمان عام 1919م !!

سفر القوافي
محمد عبد الله يعقوب
صالون فوز ۔۔ أشهر الصالونات الأدبية بأم درمان عام 1919م !!
مر الأدب والفن في السودان بمراحل عديدة حتى تبلورت القصيدة الغنائية الام درمانية بشكلها الحالي وكذلك الالحان تطورت من همهمات الطنابرة الى السلم الخماسي الذي نتمايل طربا غند سماعه اليوم بجميع اثنياتنا كسودانيين حقيقيين ،
ولنعود الى الى العام 1919م من القرن الماضي ونجلس في حضرة العظماءخليل فرخ وابراهيم عبد الحليل وعبيد عبدالرحمن وكل شعراء الحقبة وفانانيها وام درمان حينها تتداوى من جراح معركة كرري التي خلطت الأوراق وقتلت جل رجالها ، ولكن المؤرخ الأدبي صدقي الأم درماني ادخلنا في صالون مبروكة تلك الجميلة التي جعلت من بيتها صالونا للآداب والفنون بحي الموردة بأم درمان فخرحت منه درر خليل فرح الخالدة وصحبه الابرار ، ويصف صدقي تلك الفترة بقوله : (( كان مؤشر الزمن يشير للعام 1919وكان مؤشر الجغرافيا يشير لصالون يرقد بالقرب من ضفاف النيل في حي يدعى “الموردة” وفي مدينة تدعى “أم درمان” كان الصالون لإمرأه تسمى (مبروكة) يلقبونها أو تلقب نفسها ب( فوز) فإتخذت هذه المبروكة من صالونها هذا مكاناً للفن والأدب والنضال السياسي وجمعت في معيتة كل المتعطشين للمعرفة والحب والجمال …
كانت أم درمان خارجة لتوها من أكبر نكباتها فدماء الـ35 الف درويش لم تجف بعد من علي صخور كرري ، شعبها مهيض الجناح ومكسور الخاطر ويرأقب سنابك خيل المفتشين الإنجليز وهي تجوب الطرقات صباحاً ومساءً ..
في ظل هذه الظروف المعقدة كان (صالون فوز) أحدى المنارات الباسمة التي وهبت وجه المدينة بعضاً من ألق فهاهم اصدقاءنا الشعراء (الخليل) ورفاقة يأتون من كل صوب للتفاكر والتثاقف ومجالسة صاحبة الصالون والتي لا تقل روعة وجمال من صالونها الأنيق ، فقد وصفها الاستاذ محمد عبد الجليل الذي كان أحد رواد صالونها قائلاً: ( إنها إمرأة مهابة، محترمة من جيرتها، ويتعامل معها معارفها باحترام ظاهر وحقيقي، وقد عرفت بتمسكها الصارم باخلاقيات بنات السودان ونسائه) . نعم فقد كانت (فوز الموردة) كذلك فكل الذي وصلنا من سيرتها يدلل علي ما ذهب اليه “عبد الجليل” فهي إمراة فارطة الذكاء، ذات إهتمام عالي بالادب والفكر والقضايا السياسية تنحدر من أسرة ترجع أصولها لمنطقة “بربر” كما لها أيضاً أخت تقيم في منطقة “المسيد” بالجزيرة تزوجت (فوز الموردة) من ضابط سوداني يعمل في الجيش المصري جاء الي بلده الأصلي ضمن القوات الغازية وقد أمضى سنوات في وطنة الذي شارك في جرحه الغائر . فُتن هذا الضابط بفوز وبذكائها الواضح وفتنت هي ايضاً به، وقبلتة زوجاً وحبيباً . فقد كان هو أيضاً مولعاً بالأدب والفن، وإهتمامه بالفن يمتد الي الموسيقى فقد كان يجيد العزف علي آلة العود ولكن وفقاً للنهج المصري .
وقد كان هذا الضابط إضافة حقيقية لحلقات النقاش في الصالون فهاهو يقوم بتعليم بعض الفنانين أساسيات عزف العود وهاهو يعمل علي تلحين بعض الاغنيات السودانية بمصاحبة العود .
وحقيقةً فقد شكّل زواج فوز من هذا “السوداني المتمصر” البداية الحقيقية لحقبة جديدة في تاريخ الأغنية السودانية ( حقبة ما بعد الطمبره )، وقد كان رائد هذه الحقبة داخل الصالون وبلا منازع الفنان الصغير الراحل “ابراهيم عبد الجليل” المعروف أنذاك ب “عصفور السودان” فهو من شباب الموردة وقد كان بيتهم مجاوراً لقصر فوز
أمضت فوز سنوات عديدة في كنف هذا الضابط ولكن تقلبات الاحوال السياسيه شاءت آمراً آخر .
فالسلطات الحاكمة تقرر فجاة عودة زوجها للقطر المصري وقد وقع هذا الامر علي زوجها وقعاً قاسياً … وقد أخذ يتحرك في كل الإتجاهات حتي يتم التمديد له فترة أخرى في السودان ولكن السلطات تمنعت ورفضت كل حججه ومرافعاته. فأنصرف ناحية (فوز) محاولاً إقناعها بمرافقتة والإقامة معة في مصر وقد حاول أصدقائه رواد الصالون أقناعها معة، ولكنها رفضت فقد عز عليها مفارقة صالونها ولياليه . بعد أن فشلت كل محاولاته، لم يكن أمام صديقنا الضابط غير خيار واحد .. الطلاق !! وقد كان فعلاً …
كان طلاقاً أشبه بحفلة عُرس، إذ كان الجميع حضوراً كانت ليلة وداع غاية في الروعة والجمال قام الخليل فيها بتلحين قصيدة عمر بن ربيعة وغناها مودعاً ومواسياً :
وما ذاك من نعمي لديك أصابها
ولكنه حب لا يفارقه حب
فأن تقبلي يا عزة توبة تائب
لا يوجد أبداً له ذنب
وأحاطت المشاعر أيضاً بالفنان (عصفور السودان)
فصدح بأغنية عبيد عبدالرحمن التي كان قد فرغ من تلحينها للتو :
ضاع صبري أين وصلي ؟
قلبي في نار الغرام مصلي
يا عقود آمالي إنفصلي
ما بفيق من النواح أصلي
عقلي يوت كل ساعة ينفصل
فيك ضاع يا طيبة الأصل
رحل الضابط المصري، بكت فوز، وكتب الخليل تاريخ هذا الصالون العجيب :
يومنا صافي وخالي الضباب
يا نديم كيف مرح الشباب ؟
نحن جينا قصاد الضباب
بق نور (المورده) أم عباب
ديك مشارع خولة ورباب
وديك بيوتاً تحت الضباب
في (محطة شوقي) العتاب
قف قليلاً نطوي الكتاب
ويمضي الخليل في تجلياته وهو يصف لنا المخاطر التي كانت تحف بالصالون ورواده والمتمثلة في الإنجليز وتربصهم الدائم بالصالون ونشاطه الفكري والسياسي:
خبي راسك ما ينوبنا ناب
كل خشم المركز ذئاب
ثم يدلف لصاحبة الصالون مخاطباً بمحبة وإحترام :
السلام الحالي المذاب
في الثنايا الغر العذاب
يطفي نار الشوق والعذاب
(فوز) قولي أمين قلبي ذاب
مدت أيدها وقالت حباب
يا حباب أخوان الشباب
والخليل لا ينسى الرفاق :
نحن صحبة وأخوان نجاب
لي دعانا المولى إستجاب
إن مرقنا السر في الحجاب
وإن قعدنا أخوانك عجاب
لم يكن رحيل الضابط المصري هو الخيبة الوحيدة التي أصابت الصالون وصاحبة الصالون وضيوفها فقد تبعت هذه الخيبة خيبات أخرى إذ لم تمضي أيام حتي توفى أحد ضيوف الصالون داخل الصالون وتبعتة وفاة الفنان أبراهيم عبدالجليل (عصفور السودان) . تألم رواد الصالون كثيراً لهذه الفجائع، وأخذوا في هجرة الصالون رويداً رويداً وقد كانت آخر قصائد الخليل في هذا الصالون ممتلئه بالحزن وخيبة الامل :
زمني الخائن ما بدورلو شهود
ظلمك بائن انا جافيت النوم
عقب تلك الفترة إعتكفت (فوز الموردة) في قصرها وقلت مشاركتها في أفراح الناس واتراحهم لكنها ما لبثت أن إستعادت شيئاً من روحها القديمة تزوجت بعد إلحاح من أحد زعماء العشائر السودانية والذي كان يعمل في الاداره الاهلية التي كونها الأنجليز . عاشت معه سنوات هادية وسعيدة، كانت تحبه بصدق وقد كان يبادلها نفس الحب وأكثر .
ولكن سرعان ما تبدلت الأحوال وتغيرت الظروف .. ففي يوم بائس وحزين قام زوجها (الزعيم) بإطلاق النار عليها وعلي نفسة في نفس اللحظة
في مشهد غاية في البؤس والحلكة … !!!
ولم تحمل لنا الروايات حتي الان سبباً لهذا الجنون الغامض والمفاجي . رحلت “المبروكة” برفقة زوجها الي حيث لا رجعة رحلت دون أن يأبه تاريخنا الثقافي بإلقاء نظره علي عطائها الادبي والانساني ودون أن يلتفت المورخون لمجهوداتها في تاسيس الثقافة السودانية . والمبروكة هي إمتداد لنساء كثيرات غفلت (عن عمد) كتب التاريخ من ذكرهم ويرجع ذلك لسطوة المجتمع الذكوري ولتقاليده واعرافة تلك التقاليد والاعراف التي ترى في كتابة سيرة المرأه شئ من الإساءه والتعريض
قد دأبت ذاكرة الناس علي إستحضار (صالون فوز) كلما جاء ذكر الصالونات الأدبيه بأعتباره أحد الصالونات المشهورة والتي لم ينقطع حديث الناس عنها حتى الأن
ولإرتباطه أيضاً بسيرة (الخليل) ورفاقة من الشعراء والفنانين وهنا تجدر إشارة لابد منها الا وهي إن أسم “فوز” ما هو الا إسم مستعار مأخوذ من أسم “فوز” صاحبة العباس بن الأحنف وصالون فوز الشهير ليس هو صالون “محدد” كما يعتقد بعض الناس فكل ربات الصوالين أنذاك كنّ “فوز” فهنالك (فوز) بحي ميدان الربيع بأمدرمان، وهنالك (فوز) شمال السوق الكبير و(فوز) حي الزهور وقد كانت أشهرهن علي الإطلاق (فوز) الموردة . وفي بحري كانت هنالك (فوز) شمبات، وفي الخرطوم كانت هنالك أيضاً (فوز). هذه الصورة للسيدة مبروكة صاحبه الصالون الأدبي التقطت الصورة عام 1919م.
خروج أخير
انها صفحة من تاريخ الغناء السوداني جديرة بالاهتمام والمتابعة والمدارسة ، ولكن الحرب اقعدت بالمنتديات والملتقيات الثقافية في الخرطوم وبافي ولايات السودان التي كان صوتها عاليا مساء كل يوم ، وظل منتدى فلاح الثقافي وحده يمسى الى الناس في مساكنهم ، فالتحية للاخوين ايهاب واحمد محمود ابراهيم فلاح الذين مازالا يحملان عصا والدهما مطور الغناء الشعبي ومكتسف الاصوات الجديدة من المبدعين الذين يحفظون الحقيبة وهي عماد الغناء السوداني فالتهتم الدولة بهذا المنتدى ۔