رأي
من أعلى المنصة ياسر الفادني الليلة… بتقول نبتدي ؟؟
من أعلى المنصة
ياسر الفادني
الليلة… بتقول نبتدي ؟؟
أغنية صدقني ما بقدر أعيد التي خطّت كلماتها الشاعرة حكمت يس، ولحنها أحمد زاهر، وغناها كمال ترباس، تعد واحدة من النصوص الغنائية التي تجمع بين صدق التعبير الشعري ورهافة الإحساس، وبين براعة التلحين وأداء الصوت القوي المؤثر، هذه الأغنية تمثل حالة وجدانية متكاملة، تلامس النفس من أول حرف وحتى آخر نغمة
الكلمات تنساب كجرح نازف في لغة شعرية رقيقة وموجعة في آنٍ معاً، حكمت يس قدّمت صورة وجدانية عن قصة حب إنتهت إلى خيبة وألم، لكنها لم تسقط في فخ المباشرة أو التقريرية، بل كتبت بلغة مشبعة بالصور البلاغية، عبارة مثل قصة غرام بالشوق مضت تحمل إحساس الفقد الممزوج بمرور الزمن، بينما يأتي رحلة عذاب دابّا انتهت كتجسيد لمسار طويل من العناء إنتهى بلا جدوى، الشاعرة جعلت النص مشحوناً بالصور التي توحي بالخذلان والإنكسار، لكنها في الوقت ذاته تحمل كبرياء الرفض وعدم العودة، وهو ما يمنح النص قوة داخلية تتجاوز مجرد البكاء على الأطلال
اللحن الذي أبدعه أحمد زاهر جاء متسقاً تماماً مع هذا المناخ العاطفي، اللحن بُني على مسار تصاعدي يفتح مساحات للصوت كي يتلوّن وينفعل، وفيه قدر من الشجن العميق، لكنه ليس بكائياً خالصاً؛ بل يحمل طاقة داخلية تُبقي المستمع مشدوداً، الانتقالات اللحنية جاءت سلسة، لكن كل إنتقال ينقل المستمع من حالة إلى أخرى: من الإعتراف إلى العتاب، ومن الشكوى إلى الإنكسار، ثم إلى الحسم والقطيعة، هذه الديناميكية تجعل اللحن أقرب إلى رحلة شعورية تعكس النص بكل أبعاده
أما صوت كمال ترباس فهو العنصر الحاسم الذي جعل الأغنية تُخلَّد في الذاكرة ، صوته العريض المليء بالدفء والانفعال أخرج الكلمات من حيز الورق إلى فضاء الإحساس الحي ، ترباس يمتلك القدرة على المزاوجة بين الشجن والقوة، فيجعل المستمع يعيش الحالة كاملة: يطرب وينكسر في اللحظة نفسها، عندما يغني مقطع أعذرني ما بقدر أعيد، يبلغ الذروة العاطفية، وكأن الصوت نفسه يرفض العودة كما يرفض القلب، التلوينات الصوتية، المدود المدروسة، والانفعالات الصادقة كلها صنعت من الأداء لوحة درامية متكاملة
إني من منصتي أستمع …. حيث أقول …. أن هذه الأغنية هي مثال…. لإلتقاء ثلاثة عناصر أساسية: نص شعري محكم وشفاف، لحن عاطفي مدروس يفتح مسارات للروح، وصوت متفرّد في صدقه وعاطفته، لذلك بقيت صدقني ما بقدر أعيد حاضرة كأغنية لا يُستهلك جمالها، بل يزداد بريقها كلما أعيد الإستماع إليها، لأنها تمثل التجربة الغنائية السودانية في أبهى صورها: الشعر الذي يبوح، واللحن الذي يترجم، والصوت الذي يصدح ليحوّل الوجع إلى فن خالد.

