رأي
معركة الكرامة: حرب الوعي والإدراك واستعادة الرواية الوطنية عميد ركن محمد المرتضى الشيخ عبدالله أكاديمـــية نميـــري العسكــــرية العليـــــا

معركة الكرامة: حرب الوعي والإدراك واستعادة الرواية الوطنية
عميد ركن محمد المرتضى الشيخ عبدالله أكاديمـــية نميـــري العسكــــرية العليـــــا
في زمن تتقاطع فيه الحروب العسكرية مع حروب الإدراك، تتجلى أهمية السيطرة على المعلومة بوصفها أداة حاسمة في إدارة الصراع ، إذ لم تعد المعارك الحديثة تُخاض فقط في ميادين القتال، بل في فضاءات الوعي والعقول، فالمعلومة اليوم ليست مجرد أداة تواصل ، فالمعلومة تُعبّئ الشعوب أو تُضعفها، تُوَحِّد الصفوف أو تُشتِّتها، بل هي سلاح استراتيجي قادر على صناعة النصر أو الهزيمة قبل أن تُطلق رصاصة واحدة والخصم الذي يدرك ذلك يُوجه سهامه إلى منصات الإعلام قبل أن يطلق رصاصه في الميدان.
في السودان، تَجسّد هذا التحوّل بوضوح خلال حرب حين انكشفت جبهات غير مرئية: جبهة الوعي، وجبهة الإدراك، وجبهة الرواية الوطنية ، حيث واجهت الدولة السودانية تمردًا مسلحًا استخدم الدعاية الرقمية المضلِّلة والتزييف الإعلامي الممول خارجيًا، مستهدفًا معنويات الشعب وإرادة الصمود الوطني.
تشظّي الوعي: الفضاء الرقمي كميدان للمعركة
لقد تحوّل الفضاء الرقمي السوداني من مساحة للتعبير إلى ساحة مواجهة مفتوحة،
فمع الانتشار الواسع لمواقع التواصل الاجتماعي، برزت ظاهرة (التحليل غير المرشد)، حيث صار المواطن السوداني يمارس دور المحلل والمراسل، لكنه يفتقر إلى أدوات التحقق والمهنية الإعلامية، هذه الممارسة وإن بدت شكلًا من أشكال المشاركة الوطنية، إلا أنها أضعفت مناعة الرأي العام، وسمحت بتسرب الإشاعة والتهويل والتضليل إلى وجدان المجتمع، فقد أصبحت العاطفة تسبق السياق، والمعلومة تتداول قبل التحقق، والوعي الجمعي يُقاد بانفعالات اللحظة لا بعقلانية المصلحة الوطنية، وهنا بالضبط، بدأ الخصوم من الداخل (العملاء والطابور الخامس) والخصوم من الخارج(المأجورين والمرتزقة ومن خلفهم دويلة الشر الامارات بل والإمبرالية العالمية) في توجيه معركتهم نحو الوعي السوداني، وليس فقط نحو جيشه وحدوده.
الخصم الجديد: الحرب النفسية عبر المنصات
لم يكن تمرد مليشيا الدعم السريع ومن يقف خلفها من دوائر التمويل والتضليل في دويلة الشر الإمارات مجرد تحدٍّ عسكري، بل كان مشروعًا منظّمًا لبناء رواية موازية هدفها نزع الشرعية عن مؤسسات الدولة، فاستغلت هشاشة الوعي الرقمي لدى الجمهور واعتمدت على حملات تضليل رقمي مكثفة، وصور مفبركة، وشهادات مصطنعة، فحوّلت وسائل التواصل إلى جبهات ناعمة للانقسام والتشكيك، آلاف الحسابات المأجورة ومنصات البث المموّلة بثّت الأكاذيب والفبركات لتصوير التمرد كقضية سياسية لا جريمة وطنية فضلاً عن إعلام ناطق بلغات أجنبية يستهدف الرأي العام الدولي باعتبار أن جوهر المعركة لم يكن السيطرة على الخرطوم فحسب، بل السيطرة على السردية: من يملك الرواية يملك الشرعية، لكن بفضل التماسك المؤسسي والاحتراف الإعلامي، استطاعت القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية تحويل هذه الحملات إلى وقود وطني جديد عزّز وعي المواطنين بحجم المؤامرة، وأعاد الالتفاف الشعبي حول الجيش الوطني (جيش واحد ..شعب واحد ) باعتباره رمز البقاء والسيادة.
الإعلام الوطني: الجبهة الهادئة التي صنعت الصمود رغم التحديات وضخامة آلة التضليل، تمكن الإعلام الحكومي السوداني من إعادة تموضعه بوعي استراتيجي جديد وأثبت قدرة متنامية على التعامل مع حرب الرواية المضادة، فمنذ اندلاع التمرد، عملت مؤسسات الإعلام الوطني على استعادة زمام السردية السودانية، وأعاد تعريف الحرب على أنها معركة بقاء للدولة لا صراع داخلي مؤكداً على مفاهيم (وحدة الجيش الوطني، الدولة الشرعية والكرامة والسيادة الوطنية) ، كانت الرسالة واضحة: هذه ليست حربًا أهلية، بل حرب بقاء ضد مليشيا إرهابية خارجة عن القانون، تعمل بالوكالة وتُدار من غرف مظلمة خارج الحدود. لقد أعاد الإعلام الرسمي تشكيل الخطاب الوطني، فتحولت لغة الدفاع إلى خطاب تعبئة ووعي، ارتكز فيها الأداء الإعلامي على توثيق الانتصارات، تعزيز الثقة بالمؤسسات، إبراز تماسك الجبهة الداخلية، وتفنيد الروايات المعادية التي ضخّتها أدوات إعلامية ممولة من الخارج بمهارة ميدانية ومعلوماتية مدهشة ، لقد كان الإعلام السوداني جبهة صامتة لكنها فعّالة، جعلت من المعلومة درعًا للوطن لا خنجرًا في خاصرته.
من الهزيمة الإدراكية إلى الانتصار المعنوي
تُظهر تجربة السودان أن الهزيمة الأولى هي هزيمة الوعي، فحين يُخترق وعي الشعوب، تصبح كل معركة لاحقة خاسرة سلفًا، لكن ما حدث في السودان كان عكس ذلك، فبدل أن ينهار الوعي تحت الضغط الرقمي، انقلب التضليل إلى طاقة وعي جديدة، لقد أدرك المواطن حجم المؤامرة، فالتف حول جيشه، وبدأ يتعامل مع المعلومة كقضية أمن وطني لا مجرد (بوست) عابر، هنا أصبح الوعي هو خط الدفاع الأول ، عليه فإن الدرس الأكبر من حرب الكرامة أن من يمتلك السيطرة على المعلومة يمتلك المبادرة الاستراتيجية.فالمعركة ضد التمرد لم تكن فقط في الميدان، بل في فضاء المعلومات حيث تتشكل الإدراكات وتتحدد موازين الصمود، لقد أثبت السودان أن الإعلام الوطني، حين يُدار بعقل استراتيجي وطني، قادر على تحويل التضليل إلى وعي، والفتنة إلى وحدة.
نحو منظومة وعي وطني استراتيجية
تفرض هذه التجربة درسًا استراتيجيًا عميقًا:لا يكفي أن يكون لدينا إعلام قوي، بل يجب أن تكون لدينا منظومة لإدارة الوعي والمعلومة،إذ نحتاج إلى مركز وطني متكامل لتنسيق جهود الإعلام،يجمع مؤسسات الدولة وقواها الشاملة، يعمل على:
• رصد الشائعات وتحليلها لحظة بلحظة.
• استخدام الذكاء الاصطناعي لفهم اتجاهات الرأي العام.
• تدريب المواطنين على (التحقق قبل المشاركة).
• بناء جيل رقمي وطني يحمي وعيه كما يحمي أرضه.
الإعلام في هذا الإطار لم يعد ناقلًا للخبر، بل جزءًا من بنية الأمن الوطني ، وأداة للسيادة المعلوماتية لا تقل أهمية عن السلاح.
الخاتمة: النصر يبدأ من الوعي
لقد أكدت حرب الكرامة أن من لا يمتلك أدوات التحكم بالمعلومة يُهزم بها قبل أن يُهزم في الميدان، وصمد السودان لأن وعيه لم يُهزم، ولأن جيشه لم يُهزم في الرواية، وهنا يكمن جوهر المعادلة الجديدة: حين يتحول المواطن من ناقلٍ للمعلومة إلى حارسٍ لها، ينتصر الوطن قبل أن تبدأ المعركة، فالوعي ليس مجرد إدراك، بل جبهة استراتيجية، ومَن يُحسن إدارتها يمتلك مفاتيح النصر في زمن تتقاطع فيه البنادق مع الخوارزميات، والإشاعة مع القذيفة.
معركة الوعي ليست شرفًا نحتفظ به كإضافة على قوّتنا المادية، هي جزء أصيل من البناء الإستراتيجي للدولة، فالهزيمة الأولى الحقيقية هي أن نفقد روايتنا ونسمح لخصومنا بتحويل المواطنين إلى ساحة قتال نفسية، والحل ليس بالإغلاق، بل بالعمل الممنهج: إعلام وطني محترف، أدوات تقنية متقدمة، تعاون مدني – حكومي – دولي، ومنهجية استراتيجية في التحسين المستمر، اعملوا على جعل كل يوم اختبارًا صغيرًا للتحسين وستجدون أن الانتصار على التضليل يبدأ بخطوات صغيرة متراصة تؤدي إلى تغيير حقيقي ومستدام.


