Uncategorized

من أعلى المنصة ياسر الفادني الحُب…. الذي لايَفْنَي

من أعلى المنصة

ياسر الفادني

الحُب…. الذي لايَفْنَي

مدحة (بكت العين لي حبيباً) بصوت فرقة الصحوة وكلمات الراوي الشيخ صالح بن الأمين، ليست مجرد نص شعري في حب النبي صلى الله عليه وسلم، بل هي حالة وجدانية مكتملة تتجلى فيها كل معاني الشوق والحنين، ممزوجة ببكاء الروح قبل العين، تبدأ المدحة بصوتٍ متهدجٍ يشبه النشيج، حين يقول المنشد: بكت العين لي حبيبا الغالي في أم سور العجيبة ! ، في لحظةٍ يختلط فيها الدمع بالمدح، والوجد بالعشق الإلهي، فيتبدّى الشاعر كمن ينوح على فراقٍ روحيّ لا يُحتمل، فالحبيب الغالي هنا هو النبي المصطفى، الذي غاب الجسد عن عينيه ولكن حضوره في القلب لا يغيب

المدحة تنسج من البكاء سلّماً يصعد به العاشق نحو الصفاء، فكل بيتٍ منها يقطر شوقاً، وكل لفظٍ يحمل نداءً متضرعاً إلى الحبيب المصطفى، حين يقول: يا من جابر المصيبة دعوتي بي سرعة جيبا ، يظهر صوت المحب المكسور، يستغيث بمن كان دوماً ملاذ المنكسرين، فيطلب الإجابة العاجلة، لا بصوت اللسان بل بصوت القلب الذي ذاب من الانتظار، هذا التوجع لا يخرج من فراغ، بل من إحساسٍ دفين بأن النبي هو الشافع، وهو الطبيب الذي يجبر القلوب، وهو الرحمة التي تُسعف حتى في البُعد

يتجلّى الحنين في الألفاظ السودانية الأصيلة التي تضفي على المدحة دفئاً محلياً لا يُقاوم، الكلمات بسيطة ولكنها تفيض بالعاطفة، تحمل لهجة أهل السودان الذين لا يرون في حب النبي موضوعاً دينياً فحسب بل علاقة حياة، نَفَساً يومياً يعيشونه بصدقٍ عميق، ولهذا حين يمدح المنشد النبي، تشعر أن المدحة أقرب إلى البكائية منها إلى القصيدة، كأنها دموع تُغنّى لا تُقال، وكل مقطعٍ منها يروي حكاية عشقٍ متجددٍ رغم القرون

الحنين في الأداء الصوتي لفرقة الصحوة يبلغ ذروته في تلوين اللحن، فالمقام السوداني الذي تنطلق منه الألحان ليس مقام طربٍ بل مقام وجدٍ وتطريبٍ روحي، تتدرج الأصوات بين الخفوت والارتفاع كما تتدرج الموجة في بحر العاطفة، فيتحول الصوت إلى نايٍ حزينٍ ينوح على فراق الحبيب، الفرقة تستخدم تنغيماتٍ صوفية دقيقة، فيها مدٌّ في النهايات، وارتجافٌ في المقاطع التي تُنطق فيها أسماء النبي، وكأن كل مؤدٍ يسلم صوته قرباناً للمدح

الموسيقى هنا ليست معقدة، بل هي مزيج من الإيقاعات الهادئة التي تعانق الكلمة ولا تطغى عليها، الإيقاع بطيء، متأمل، كأنه يواسي المستمع ويدعوه للبكاء في سكينة، هذه البساطة ليست ضعفاً فنياً، بل هي تعبير عن روحانية المدحة السودانية التي تتجنب الزخرفة اللفظية لتحتفظ بصدق المشاعر والفرقة بخبرتها في هذا اللون، تعرف تماماً متى تسكت الآلات لتترك المجال لصوت المنشد وهو يتهدج قائلاً: يوم وضعو الجاهو حاوي خلى الكون نورو ضاوي، في لحظة صفاءٍ تنساب فيها الأنوار عبر اللحن

أما صوت المنشدين فهو في ذاته رواية حب، فيه ارتعاشةٌ لا تصطنع، وانكسارٌ صادق، وكأنه يبكي من عمق التجربة لا من باب الأداء، حين يرتفع صوتهم في المقاطع الأخيرة، لا يبدو أنهم يريدون استعراضاً صوتياً، بل يريدون أن يصرخون بحبٍ مكتومٍ يعجز عن احتماله، لذلك نجد أن نبرة الأداء تتأرجح بين الهمس والأنين، بين الرجاء والانكسار، لتخلق حالة وجدٍ تسمو فوق الكلمات

إني من منصتي أنصت بحب وشوق إلى هذا العسل النبوي ….في قلب المحب السوداني، هذه المدحة ليست أغنية، بل صلاة، إنها تذكيرٌ بأن العلاقة بالنبي علاقة عشقٍ روحيّ، فيها بكاء الحبيب على غياب الحبيب، وفيها يقينٌ بأن اللقاء ممكن في الدارين كما يقول الشاعر: نفسي الدانية وجنيبة في الدارين غطي عيبا، كل بيتٍ من المدحة يفتح نافذة نحو مقام المحبة الكبرى، حيث لا يُمدح النبي فقط لأنه رسول، بل لأنه الحبيب الذي علّم القلوب معنى النقاء، ولهذا حين يسمعها السوداني، يغمض عينيه، ويترك دموعه تنساب، لأنه لا يسمع مديحاً، بل يسمع نبض قلبه وهو ينادي:
(بكت العين لي حبيباً الغالي …… في أم سور العجيبة ) …صلوا علي الغالي .

مقالات ذات صلة

إغلاق