Uncategorized
الحرب النفسية من الخندق الخلفي إلى خط المواجهة الأول حرب الوعي: أسلحة غير مرئية تتحدى السودان.. فهل نملك أدوات المقاومة؟ عميد ركن محمد المرتضى الشيخ عبد الله أكاديميـــة نميــــــــري العسكريــــة العليا

الحرب النفسية من الخندق الخلفي إلى خط المواجهة الأول
حرب الوعي: أسلحة غير مرئية تتحدى السودان.. فهل نملك أدوات المقاومة؟
عميد ركن محمد المرتضى الشيخ عبد الله
أكاديميـــة نميــــــــري العسكريــــة العليا
مقدمة في خضم التغطية الإعلامية المكثفة للأحداث السودانية الأخيرة، صادفني مثالٌ صارخ على التناقض السردي: تصوير حدث واحد عبر منظورين متناحرين؛ أحادهما يُجَسِّد صموداً أسطورياً، والآخر يُروِّج لانكسار مُذِل. كانت تلك اللحظة بمثابة كشف استراتيجي: لقد انتقل الصراع من ساحات القتال المرئية إلى جبهة أكثر خطورةٍ وتعقيداً. لقد أصبحت المعركة الحقيقية تُخاض داخل العقل البشري والوجدان الجمعي، حيث يحل الصراع على الرواية والتأويل محل المواجهة المباشرة. لم تعد الحرب النفسية مجرد دعم تكتيكي للعمليات العسكرية، بل تحولت إلى الاستراتيجية المحورية في زمننا الرقمي، وفي السياق السوداني، حيث يتشابك التمرد والنزاع المسلح مع الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، فأصبح الغزو الناعم للوعي هو المعركة الحاسمة، إنها حرب تستهدف (المسافة الحرجة بين الإدراك والحقيقة)، بين الاستقبال العاطفي للحدث وتحليله العقلاني ، وهكذا يتحول المواطن من متلقٍ سلبي إلى ساحة قتال، حيث تُختَزَل الجغرافيا إلى (مساحة نفسية) تُقاس بمقدار الثقة واليأس والأمل، ويُقاس النصر فيها بقدرة طرف على (تفكيك إرادة الآخر النفسية) حتى قبل التفكير في احتلال أراضيه.
القسم الأول: التشريح الاستراتيجي.. الأبعاد الخفية للحرب النفسية في السودان
أولاً: بعد الهوية: تفكيك الذاكرة الجمعية. وذلك من خلال اغتيال الذاكرة الجمعية وتفكيك النسيج الوطني. في حرب الهوية النفسية، لا تُستهدف الأرض أولاً، بل تُستهدف الرواية، فالآلة النفسية المعادية تعمل بمنهجية جراحية على: – تحويل التنوع إلى انفصام. وذلك بتحويل الثراء الثقافي السوداني (أكثر من 500 مجموعة إثنية ولغوية) من مصدر قوة إلى نقاط ضعف، إعادة إنتاج الصراعات التاريخية بنسخة رقمية حديثة وتجزئة الهوية الوطنية إلى هويات فرعية متناحرة – استعمار الذاكرة التاريخية. وذلك بإعادة كتابة التاريخ بلغة (ويكيبيديا القتال) أي كل طرف يحرر الرواية لمصلحته، تزييف الرموز الوطنية من خلال تحويل الأبطال التاريخيين إلى مجرد زعماء مناطق أو قبائل وتشويه الإنجازات الوطنية الجماعية وتقديمها كإنجازات فئوية. – هندسة الانتماء العكسي. وذلك من خلال خلق انتماءات وهمية تعتمد على العداء للآخر بدلاً من الانتماء للوطن، تحويل الدين من عامل توحيد إلى أداة تقسيم عبر تفسيرات متطرفة بالإضافة لاستغلال الفوارق الاقتصادية لخلق هويات طبقية عدائية.
الخطر الجوهري: عندما تفقد الأمة ذاكرتها الجمعية، تفقد بوصلة مستقبلها، فالهوية المشتركة هي التي تحول الجمهور من مجرد سكان إلى شعب، ومن شعب إلى أمة.
ثانياً: البعد الرقمي: جيوش الظل الإلكترونية. في عالم اليوم، يمكن لحملة إلكترونية منظمة أن تؤسس لحقيقة مزيفة في غضون ساعات في السودان، رأينا كيف تتحول الوقائع إلى (ميمات)، والمعاناة إلى (تريندات)، والحقائق إلى (أرشيف) ضائع بين الفيديوهات، هناك أسلحة جديدة: البوتات التي تضخم الأصوات، والحسابات الوهمية التي تزرع الشك، والخوارزميات التي تغذي الغضب.
ثالثاً: البعد الوجودي: استهداف إرادة الحياة. أخطر أبعاد الحرب النفسية هو ذلك الذي يستهدف رغبة الإنسان في الحياة ذاتها. عندما تُجَوَّع الروح قبل الجسد، عندما يُشَكَّك في جدوى المقاومة، عندما يُصَوَّر المستقبل كأنفاق مظلمة بلا نهاية – هنا تتحقق النصر الحقيقي للمعتدي دون إطلاق رصاصة.
أولاً: بعد الهوية: اغتيال الذاكرة الجمعية وتفكيك النسيج الوطني. في حرب الهوية النفسية، لا تُستهدف الأرض أولاً، بل تُستهدف الرواية، فالآلة النفسية المعادية تعمل بمنهجية جراحية على: – تحويل التنوع إلى انفصام. وذلك بتحويل الثراء الثقافي السوداني (أكثر من 500 مجموعة إثنية ولغوية) من مصدر قوة إلى نقاط ضعف، إعادة إنتاج الصراعات التاريخية بنسخة رقمية حديثة وتجزئة الهوية الوطنية إلى هويات فرعية متناحرة – استعمار الذاكرة التاريخية. وذلك بإعادة كتابة التاريخ بلغة (ويكيبيديا القتال) أي كل طرف يحرر الرواية لمصلحته، تزييف الرموز الوطنية من خلال تحويل الأبطال التاريخيين إلى مجرد زعماء مناطق أو قبائل وتشويه الإنجازات الوطنية الجماعية وتقديمها كإنجازات فئوية. – هندسة الانتماء العكسي. وذلك من خلال خلق انتماءات وهمية تعتمد على العداء للآخر بدلاً من الانتماء للوطن، تحويل الدين من عامل توحيد إلى أداة تقسيم عبر تفسيرات متطرفة بالإضافة لاستغلال الفوارق الاقتصادية لخلق هويات طبقية عدائية.
الخطر الجوهري: عندما تفقد الأمة ذاكرتها الجمعية، تفقد بوصلة مستقبلها، فالهوية المشتركة هي التي تحول الجمهور من مجرد سكان إلى شعب، ومن شعب إلى أمة.
ثانياً: البعد الرقمي: جيوش الظل الإلكترونية ومعركة السرديات الافتراضية – ميدان المعركة الجديد: الفضاء السيبراني. ويتمثل ذلك في الحملات الإلكترونية الممنهجة التي تعمل من خلال فرق مدربة وممولة تعمل على مدار الساعة، التضخيم الخوارزمي باستخدام البوتات (الحسابات الآلية) لتضخيم الروايات المزيفة وأخيراً الهندسة الاجتماعية من خلال تصميم المحتوى لينتشر بسرعة ويتجاوز الحواجز النقدية.
– أسلحة العصر الرقمي المتطورة: والمتمثلة في الميمات القتالية التي تعمل على تحويل القضايا المعقدة إلى صور ساخرة بسيطة تنتشر كالنار، الفيديوهات المزيفة والتلاعب بالسياق من خلال استخدام تقنيات Deepfake أو اقتطاع المقاطع، حرب التريندات وذلك بالتحكم في المواضيع المتداولة لتوجيه الرأي العام وأخيراً التكتيكات العاطفية وذلك باستغلال المشاعر (غضب، خوف، حنين) لنشر المحتوى.
– اقتصاد الانتباه المدمر: وذلك بتحويل معاناة البشر إلى محتوى رقمي يستخدم كعملة في حرب السرديات، استغلال الصدمات النفسية الجماعية لخلق محتوى viral يخدم أجندات معينة ثم تحويل الحقائق إلى (أرشيف ضائع) بين كم هائل من المعلومات المتناقضة.
المحصلة النهائية: يصبح المواطن العادي جندياً في معركة لا يعرف قواعدها، حاملاً سلاحاً (هاتفه) قد يكون موجهاً ضد وطنه دون وعي منه.
ثالثاً: البعد الوجودي: اغتيال الأمل واستهداف إرادة الحياة – استراتيجية التجويع النفسي الممنهج: ذلك بتجويع الروح قبل الجسد من خلال تحطيم المعاني التي تجعل الحياة تستحق العيش، تسميم بوصلة المستقبل وذلك بتقديم الغد ككارثة محققة لا مفر منها وأخيراً اغتيال الحلم الوطني بتحطيم فكرة أن مستقبلاً أفضل ممكن.
– آليات تدمير الإرادة الجماعية: وتتضمن تضخيم اليأس بتقديم كل حل محتمل كأمر مستحيل، تكريس العجز بتعميق الشعور بأن الفرد لا يستطيع تغيير شيء، تطبيع الفوضى بتقديم الانهيار كحالة طبيعية لا مفر منها بالإضافة لتجزئة المصير بتحطيم فكرة المصير المشترك.
– المراحل المتدرجة للانهيار الوجودي: المرحلة الأولى وهي التشكيك في نجاح أي جهد وطني، المرحلة الثانية بتقديم الخيانة كخيار عقلاني والوطنية كسذاجة، المرحلة الثالثة بتحويل البقاء على قيد الحياة إلى غاية في حد ذاتها وتأتي المرحلة الرابعة بتفكيك فكرة (نحن) واستبدالها بـ(أنا) متوحشة.
– الأعراض المجتمعية الخطيرة: وتبدأ باللامبالاة الوجودية حيث لا شيء يستحق العناء. الهجرة الداخلية هجرة العقول والقلوب قبل هجرة الأجساد، ثم يأتي الانتحار المجتمعي البطيء بالتخلي التدريجي عن كل ما يشكل حضارة، تفكك العقد الاجتماعي بتحول العلاقات من تعاون إلى صراع من أجل البقاء، وأخيراً يأتي الخطر الأقصى عندما ينتصر هذا البعد، لا يحتاج المعتدون إلى احتلال الأرض، لأن الشعب قد احتل اليأس قلبه، والعبودية إرادته، والموت روحه بينما جسده لا يزال حياً.
الحرب النفسية متعددة الطوابق في السودان اليوم: – الطابق السفلي: حرب الوجود (البقاء أم الفناء) – الطابق الأوسط: حرب الهوية (من نحن؟) – الطابق العلوي: حرب الرواية (ما هي قصتنا؟)
المعركة الحقيقية تدور على جميع هذه الجبهات في وقت واحد. والخطير أن الهزيمة في أي طابق منها تضعف المقاومة في الطوابق الأخرى، فمن يفقد إرادة الحياة (البعد الوجودي)، يصبح أداة طيعة في تفكيك هويته (بعد الهوية)، وناقلاً فعالاً للرواية المعادية (البعد الرقمي).
السؤال المصيري: كيف نبني مقاومة نفسية متعددة الطوابق، تبدأ من تأكيد إرادة الحياة، مروراً بتعزيز الهوية الجامعة، وصولاً إلى إنتاج رواية وطنية بديلة قادرة على هزيمة جيوش الظل الإلكترونية؟ والجواب يبدأ بالاعتراف بأن هذه الجبهات الثلاث متصلة، وأن النصر في حرب الكرامة لن يتحقق إلا بالانتصار عليها جميعاً.
القسم الثاني: السودان تحت المجهر.. تشريح لحظة التحول (قحط نكبة السودان)
المشهد الأول: تفكيك دولة في عقول أهلها. قبل أن تتدمر البنى التحتية، تم تدمير الثقة في فكرة الدولة نفسها، لاحظنا كيف تحولت المؤسسات في التصور الشعبي من (كيان خدمي) إلى (أداة قمع)، وكيف تحول الجيش من (حامي الوطن) إلى (طرف في الصراع) في السرديات المتضاربة. هذه ليست تطورات عفوية، بل هي ثمرة جهد منهجي استمر لسنوات.
المشهد الثاني: اقتصاد الرعب النفسي. التضخم ليس رقمياً فقط، إنه نفسي، عندما يفقد الناس الثقة في عملتهم، يفقدون الثقة في قراراتهم اليومية، ثم في تخطيطهم لغدهم، وأخيراً في قدرتهم على التحكم بمصيرهم، الحرب الاقتصادية النفسية تخلق حلقة مفرغة: الخوف يولد الشائعات، والشائعات تزيد الذعر، والذعر يدمر ما تبقى من استقرار.
المشهد الثالث: استعمار العقل السوداني. هناك محاولة واضحة لفرض (استعمار معرفي) جديد، حيث تُصَدَّر روايات روبوتية، وتحلل الأزمات بأدوات غير سودانية، وتُقَدم الحلول بمنطق لا يفهم تعقيدات النسيج الاجتماعي السوداني. إنها حرب تستهدف عقل السوداني قبل أرضه.
القسم الثالث: حرب الكرامة.. من رد الفعل إلى صناعة المصير
في مواجهة هذا الطوفان، لم يكن الصمود السوداني مجرد مقاومة، بل كان إبداعاً استراتيجياً، فحرب الكرامة هي في الحقيقة نقل المعركة إلى ساحة نختارها نحن:
أولاً: تحويل الضعف إلى قوة روائية. لقد استطاع السودانيون تحويل معاناتهم إلى رواية إنسانية عالمية، تحويل الدمار إلى دليل على القدرة على التحمل، تحويل الدموع إلى خارطة طريق للعالم نحو ضميره.
ثانياً: المقاومة الثقافية: عندما يصبح التراب سلاحاً. لم تكن المقاومة بالبنادق فقط، بل كانت بالألوان على الجدران، بالأغاني في الشوارع، بالشعر في المقاهي، بالرقص على أنقاض الدمار، هذه هي الحرب النفسية المضادة: إثبات أن الروح لم تُقتل.
ثالثاً: صناعة الأمل كخيار استراتيجي. في أكثر اللحظات ظلاماً، ظل السودانيون ينتجون الأمل كقوة مضادة لليأس، إنها إرادة مذهلة بتحويل كل فقدان إلى سبب للاستمرار، كل جرح إلى ذاكرة تحفز على البناء.
القسم الرابع: خارطة الطريق.. من الدفاع إلى الهجوم النفسي (توصيات)
التوصية الأولى: تأسيس (المجلس الأعلى للأمن النفسي الوطني) والذي يمثل هيئة ذات صلاحيات استراتيجية تضم:
وحدة التحليل الاستباقي: ترصد الحملات النفسية قبل انتشارها.
وحدة الإنتاج الإبداعي: تصنع محتوى جاذباً يسبق الحملات المعادية
وحدة الحشد الدولي: تبني التحالفات الإعلامية العالمية.
وحدة المناعة المجتمعية: تطور برامج لتعزيز التفكير النقدي
التوصية الثانية: مشروع السودان الرقمي الموازي. بدلاً من الدفاع عن الساحة الرقمية، يجب بناء ساحة موازية:
منصة سودان مترابط: شبكة اتصال محلية آمنة.
مكتبة رقمية وطنية: تحفظ التراث السوداني وتاريخه.
أسرة إعلامية موحدة: تتحدث بصوت متناغم رغم تعدد الآليات
برامج تدريبية مكثفة: لشباب سوداني على حروب أجيال المستقبل.
التوصية الثالثة: اقتصاد الكرامة. تحويل المقاومة إلى مشروع اقتصادي:
دعم المنتج السوداني: كقضية وطنية واقتصادية ملحة.
صناعة السياحة التراثية: حتى في زمن الحرب
تمويل المشاريع الصغيرة: التي تحفظ الكرامة اليومية.
إطلاق صندوق السيادة الثقافية: لدعم المبدعين في كافة المجالات.
التوصية الرابعة: الدبلوماسية النفسية العالمية
إنشاء أكاديمية السودان للسلام: تقدم النموذج السوداني في حل النزاعات وفن التعايش في لحظات الكرب.
إطلاق مبادرة الحقيقة أولاً. لمواجهة التضليل الدولي.
تأسيس تحالف الدول المستهدفة بالحروب النفسية. إنتاج محتوى إعلامي عالمي يروي القصة السودانية بلغة العصر.
التوصية الخامسة: مشروع الإنسان السوداني الجديد. التخطيط على المدى الطويل:
إصلاح التعليم: لبناء عقول ناقدة مستقلة.
برامج الصحة النفسية المجتمعية: لمعالجة صدمات الحرب وما بعدها.
إحياء الحوار الوطني الدائم: كآلية دائمة وليس مؤقتة.
تعزيز القيم المدنية: في ظل التنوع الإثني والديني.
الخاتمة: من فخ الضحية إلى فاعلية البطل
السودان اليوم على مفترق طرق تاريخي فإما أن يكون نموذجاً لكيفية تدمير أمة عبر الحرب النفسية، أو يصبح نموذجاً لكيفية مقاومة هذه الحرب وتحويلها إلى فرصة للنهوض، الدرس الأهم من حرب الكرامة هو أن المقاومة النفسية تبدأ بالقرار الشخصي:
• قرار بعدم مشاركة الشائعة قبل التأكد.
• قرار بالبحث عن الجمال وسط الدمار.
• قرار بالحديث بلغة الأمل حتى في لحظة اليأس.
• قرار برؤية الإنسان في الطرف الآخر قبل رؤية عدوه.
في النهاية، الحرب النفسية تُهزم عندما نرفض أن نكون مجرد رد فعل، عندما ننتقل من موقع الضحية التي تدافع إلى موقع الفاعل الذي يصنع واقعاً جديداً، الكرامة التي يحارب من أجلها السودانيون اليوم ليست مجرد شعار، بل هي مشروع حضاري يثبت أن الإنسان أقوى من كل آلات التدمير، وأن العقل الحر لا يمكن أسره حتى لو سُجن الجسد.
السؤال الأخير الذي أترككم معه: هل نستطيع تحويل (وجع) اليوم إلى حكمة تغذي أجيال الغد؟ الإجابة تكمن في قرار نصنعه كل صباح: أن نختار الحياة، نختار الوحدة، نختار الكرامة لكن ليست كشعارات، بل كمشروع وطني يومي نبنيه خطوة خطوة، كلمة كلمة، قلباً بقلب، فإذا كان السلاح غير مرئي، فإن المقاومة أيضاً يجب أن تكون أعمق من أن تُرى، أوسع من أن تُحد، وأقوى من أن تُقهَر.



