رأي

بروفيسور إبراهيم محمد آدم يكتب مشكلات السودان الاقتصادية ، هيكلة الاقتصاد أم هيكلة الثقافة(4-5)

بروفيسور إبراهيم محمد آدم يكتب
مشكلات السودان الاقتصادية ، هيكلة الاقتصاد أم هيكلة الثقافة(4-5)

كان الريف هو المنتج لكل صادرات السودان الأساسية مثل الحبوب الزيتية كالسمسم والفول وزهرة الشمس وبذور القطن وحب البطيخ والكركدي بالإضافة إلى الذرة الرفيعة والدخن واللوبيا والفاصوليا والبقوليات والأرز والبلح والصمغ العربي والبطيخ وكل ما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها، بالإضافة إلى المن والسلوى ولحم طير مما يشتهون داجن وغير داجن وسمن وعسل رايق مصفى .
أما الثروة الحيوانية فقد ظلت ترفد المدن بأنواع جيدة من الأبقار والإبل والضان والماعز، بل وحتى لحوم الصيد كانت تباع مجففة في الدكاكين الصغيرة، كان اللوري أو القندراني عندما يخرج من القرية يكون محملاً بكل ما هو قيم، وكلنا يتذكر أنه حتى أطراف اللوارى كانت محملة بالدجاج البلدي الذي صار مضرباً للمثل في ثقافتنا فنقول للذي لم يتعلم شيئاً، كان مثل الديك ذهب معلقاً وعاد معلقاً. كان اللوري يعج بكل تلك البضائع المحلية ذات القيمة العالمية إلى المدينة وأهلها ويعود أصحاب الأرياف التي ليست بها بساتين ببعض الفواكه والخضار وقليل من رغيف الخبز الذي كان يؤكل حافاً مع الفواكه، أما أرياف ضفاف النيل وفروعه وبعض البلديات فهي التي تصدر خضرواتها وفواكها للذين هم في المدينة .
هكذا كان الإنتاج غزيراً والجميع يعملون، حتى المنهج السوداني الذي أسس له الإنجليز في بخت الرضا كان يخاطب قضايا الريف قبل المدينة كما في منهج اللغة الانجليزية الذي يتحدث عن المزارع وزراعته وحيواناته وكيف أن على الطلاب إطعام حمير آبائهم في المساء قبل الذهاب إلى المذاكرة في المدرسة والتي كانت إلزامية ومجانية ويراقبها معلمو المدرسة، حين كان المعلم يقوم بدوره كاملاً بناء على ما يأخذه من راتب يكفيه ويفيض، يعطى حصة قبل الطابور ثم يبدأ بعدها اليوم الدراسي، الذي يعقبه درس العصر ثم المذاكرة التي سبقت الإشارة إليها، وبين هذا وذاك يكون قد سمع للتلاميذ ما يجب حفظه وصحح لهم ما لزم تصحيحه من واجبات ما بعد اليوم الدراسي ،ثم عصراً يواصل معهم النشاط الرياضي ومساءاً النشاط الثقافي للمشتركين في الجمعيات الأدبية، وكانت أسس الثقافة كلها متوفرة من مكتبة مدرسية ومسرح ومعدات فن وتمثيل، كان هناك منهجاً للتربية الوطنية يذكر الكل بأن السودان وطناً للجميع ويردد طلاب المدارس في الاحتمالات قصيدة عبد الرحمن على طه منقو قل لا عاش من يفصلنا، ومنهج الجغرافيا يطوف بنا في كل أصقاع البلاد معرفاً بثقافتها التي تصب في إطار جامعة الثقافة السودانية.
نتيجة لذلك الإهمال للريف السوداني وعدم تطوير منتجاته الزراعية والحيوانية وتدهور أسعار المنتجات جميعها بعد الحصار الامريكي الجائر الذي فرض على للسودان بفرية رعاية الإرهاب أصبح الريف طارداً بعد أن كان جاذباً لسكانه وللقادمين من خارجه للعمل في التجارة أو الزراعة فهجره أهله، ترك سكان الأرياف ثرواتهم الحيوانية وزراعتهم غير المجدية واتجهوا صوب المدن عاملين في وظائف هامشية لا تسمن ولا تغني من جوع بل وتعطلت المواهب فازداد حزام الفقر حول المدن في العاصمة وحواضر الولايات وامتد السكن العشوائي في كل مدن السودان ناقلاً معه العديد من الجرائم الناتجة عن الفقر والفاقة والجوع الكافر وحسناً فعلت الحكومات السابقة بتخطيط تلك الأحياء العشوائية ولكنها ظلت في الغالب على حالها في البؤس والشقاء وأنتجت جيلاً من المستحيل أن يعود إلى النشاط الزراعي والحيواني الذي لم يألفه في بيئته المجدبة الجديدة بالإضافة إلى أن تدهور الخدمات في الريف فيما يلي التعليم والصحة والكهرباء والمياه والنظافة جعلت هؤلاء ايضاً غير راغبين في العودة.
إن ذاك النزوح قد عطل طاقات شباب كان من الممكن الاستفادة منها في الإنتاج وأدت البطالة إلى انحراف في أوساط بعض الشباب نتيجة للفراغ الذي يعانونه، وربما يؤدي هذا الأمر لاحقاً إلى اضطرابات في تلك الأحياء يغذيها غبن اجتماعي مصحوب بانسداد الأفق نحو مستقبل ما، وربما تتكرر تجارب بعض ضواحي المدن الأوربية التي أصبحت مقصداً للمهاجرين من دول العالم الثالث فاتسمت بجرائم الحقد الاجتماعي والانفلات الأمني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق